"مصر" وما حولها.. قبل المعركة:
كان الوضع في مصر عندما بدأ التتار في اجتياح الشام والاقتراب من الديار المصرية متأزماً جداً.. فالمسرح السياسي الداخلي كان يموج بالاضطرابات العاصفة، والأزمات الشديدة.. وكانت الفتن الناتجة عن التصارع على كرسي الحكم - وخاصة في السنوات العشر الأخيرة - عنيفة ومتكررة.. نعم استقرت الأوضاع نسبياً عندما تولى الملك المعز عز الدين أيبك، وذلك لفترة سبع سنوات متصلة، ولكنها عادت من جديد للاشتعال بمقتل الملك المعز ثم شجرة الدر، ثم ولاية الطفل نور الدين علي، ثم خلعه بواسطة قطز رحمه الله.. وإن كان قطز الآن قد استقر على كرسي الحكم لكن لا شك أن هناك الكثير من الطامعين في الكرسي، ولا شك أيضاً أن هناك الكثير من الحاقدين على قطز شخصياً، ومن المؤكد أن هؤلاء وهؤلاء سوف يتحركون ـ أو يحاولون التحرك ـ لإقصاء قطز عن العرش، أو قتله إذا لزم الأمر... كما اعتاد كثير من المماليك أن يفعلوا..
… ولا ننسى أن الفتنة ما زالت دائرة بين المماليك البحرية الصالحية الذين كانوا يؤيدون شجرة الدرّ والمماليك المعزية الذين يؤيدون الآن سيف الدين قطز، وقد فرّ كثير من المماليك البحرية إلى مختلف الإمارات الإسلامية في الشام، ومن بقي منهم في مصر بقي على وجل وترقب.. وهذا الانقسام - بلاشك - أضعف القوة العسكرية المصرية؛ لأن المماليك البحرية كانوا أساس الجيش المصري في ذلك الوقت.
…وإذا كان الوضع السياسي والعسكري داخل البلاد على هذه الصورة الخطيرة فإن المسرح السياسي الخارجي كان يحمل مشكلات أخرى كبيرة.. ذلك أن العلاقات كانت ممزقة تماماً بين مصر وبين كل جيرانها بلا استثناء.. فالعلاقات الدبلوماسية مع كل إمارات الشام كانت مقطوعة تماماً، بل كانت روح العداء الشديد هي السائدة بين الطرفين، كما لم يكن لمصر أي سند من دول الشمال الأفريقي أو السودان.. ومعنى هذا أن هذه العزلة المقيتة ستسهّل جداً على الوحش التتري مهمة ابتلاع مصر كما فعل بأشياعها من قبل..
…ولم يكن الوضع الاقتصادي في مصر بأحسن حالاً من الوضع السياسي أو الاجتماعي؛ فهناك أزمة اقتصادية طاحنة تمر بالبلاد من جراء الحملات الصليبية المتكررة، ومن جراء الحروب التي دارت بين مصر وجيرانها من الشام، ومن جراء الفتن والصراعات على المستوى الداخلي.. كما أن الناس انشغلوا بأنفسهم وبالفتن الداخلية والخارجية فتردّى الاقتصاد إلى أبعد درجات التردي، وباتت البلاد على حافة هاوية سحيقة شبه مؤكدة..
…كل هذا وأعداء الأمة قد اجتمعوا عليها، وبضراوة شديدة، فهناك الغرب الصليبي الحاقد جداً والذي مُني بهزائم قاسية مخزية في مصر منذ عشر سنوات تقريباً في المنصورة وفارسكور، ولاشك أن الصليبيين يريدون الثأر والانتقام، وقد يجدون أن الاضطرابات الأخيرة في مصر فرصة سانحة لرد الاعتبار، ولتحقيق أحلام الغزو..
وهناك الإمارات الصليبية المزروعة في فلسطين منذ عشرات السنين.. وفوق كل ذلك هناك الهم الكبير القادم من الشرق.. وهو التتار..
وهكذا استلم سيف الدين قطز رحمه الله هذه التركة المثقلة بالهموم والمشاكل..
فكيف تصرف الملك المظفر قطز رحمه الله مع هذا الوضع شديد التأزم؟!
وما هي خطواته التي خطاها من أجل التغيير؟!
وما هو الإعداد الذي قام به لمواجهة الهجمة التترية الشرسة؟!!
الخطوة الأولى التي حرص عليها قطز رحمه الله هي استقرار الوضع الداخلي في مصر، وقطع أطماع الآخرين في كرسي الحكم الذي يجلس عليه؛ لأن الطامع في الكرسي لن تهدأ له نفس أو تستقر له حال حتى يجلس على الكرسي الذي يريد، فكيف تصرف في هذا الموقف رحمه الله؟!
إنه لم يقطع أطماعهم عن طريق التهديد والوعيد، فهذا - على العكس - يزيد الفتن اشتعالاً، ويؤجج نيران الحقد والحسد والغل، ولم يقطعها بتزوير إرادة الشعب وإيهام الجميع أن الشعب يريده هو بذاته، ولم يقطعها بالخداع والغش والمؤامرات والتحايل، ولكن قطز رحمه الله ارتفع "بأخلاق" المنافسين إلى درجة لم يتعودوا عليها في الفترة الأخيرة في مصر..
لقد جمع قطز رحمه الله الأمراء وكبار القادة وكبار العلماء وأصحاب الرأي في مصر، وكل هؤلاء من المحركين الفعليين لطوائف الشعب المختلفة، وقال لهم في وضوح:
"إني ما قصدت (أي ما قصدت من السيطرة على الحكم) إلا أن نجتمع على قتال التتر، ولا يتأتى ذلك بغير ملك، فإذا خرجنا وكسرنا هذا العدو، فالأمر لكم، أقيموا في السلطة من شئتم"..
فهدأ معظم الحضور ورضوا بذلك..
لقد حرص قطز رحمه الله على إبراز خطورة العدو القادم، وعلى إظهار الغاية النبيلة التي من أجلها صعد إلى كرسي الحكم.. ومن المعروف أن الأزمات الشديدة التي تمرّ بالأمة يمكن أن تكون أزمات مجمّعة إذا أحسن القائد استغلالها.. ومن أفضل الأمور لتجميع الناس وتوحيد الصف: "الجهاد".. ولهذا فالقائد الذي لا يجمع شعبه على قضية جهادية يفقد عادة حب شعبه، ويفقد ولاءهم له، بل وقد تكثر الفتن والقلاقل لأن الناس سيعانون من حياة الدعة والركون، وسينشغلون بسفاسف الأمور... وعلى الناحية الأخرى ما رفع قائد مسلم ـ في كل تاريخ المسلمين ـ راية الجهاد بصدق إلا استقرت بلاده، وسار خلفه شعبه بكل حب وصدق ووفاء..
وفوق ذلك فقطز يعلن بوضوح أنه سيجعل الأمر في الناس يختارون من يشاءون دون التقيد بعائلة معينة أو مماليك بذاتهم..
ولا يستقيم هنا أن نفعل مثلما يفعل المحللون الغربيون أو بعض المحللين المسلمين الذين يعتمدون في تحليلاتهم على المدارس الغربية في التحليل والنقد ويقولون: إنما قال قطز ذلك ليقمع المناوئين له، وليثبت نفسه في كرسيه مستغلاً حب المسلمين للجهاد.. لا يستقيم أن نطعن في نية قطز رحمه الله من وراء هذه الكلمات، وأن نفترض أن وراء الكلمات مراميَ أخرى.. ففوق أن إحسان الظن بالمؤمنين أمر مطلوب شرعاً، فإن الكلمات والأفعال تقيّم وتحسب دائماً في ضوء سيرة الشخص وحياته، وقد رأينا بعد ذلك سيرة قطز بعد أن تولى الملك، ورأينا سيرته في أثناء تحركاته إلى عين جالوت، ورأينا سيرته خلال موقعة عين جالوت وبعدها.. رأينا في كل ذلك ما يثبت أن كلامه كان صادقاً، وأن رغبته في قتال التتار والانتصار لهذا الدين كانت أعلى بكثير من رغبته في الملك.. وقد جعل الله عز وجل نصر الأمة على يديه كما سنرى، وليس من سنة الله عز وجل أن يكتب نصر الأمة على يد المنافقين والفاسدين..
"إن الله لا يصلح عمل المفسدين"..
وليس من الطبيعي أن يخلد تاريخ المسلمين رجلاً اختلطت في قلبه النوايا، ولعبت به الأهواء، ولذلك فإن قطز رحمه الله رجل نحسبه على خير، ولا نزكي على الله أحداً، وقد أجمع علماء الأمة على عدالته وفضله وتقواه..
…وإذا كان من الممكن قبول عذر المستشرقين والمحللين الغربيين في أن قطز كان يقصد الملك وليس الجهاد لأنهم في سياستهم وحياتهم لا يرون إلا هذه الأمثلة، فإن عذر المحللين المسلمين غير مقبول، لأن هذا المثال المخلص الذي لا يريد شيئاً لنفسه، وإنما يهب حياته لربه ودينه وشعبه ولقضايا أمته.. هذا المثال الراقي كثير جداً في أمتنا، ومتكرر جداً في تاريخنا.. وسبق قطز رحمه الله على هذا الطريق كثيرٌ من أبطالنا، ولحق به آخرون كثير.. وسيظل الخير في أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة..
…ومع أن قطز رحمه الله قد استخدم الأخلاق العالية، والأهداف النبيلة في تجميع القواد والعلماء حوله، إلا أنه لم يتخل عن حزمه في الإدارة، وعن أخذه بأسباب السيطرة على الأمور.. فعزل الوزير "ابن بنت الأعز" المعروف بولائه الشديد لشجرة الدر، وولّى بدلاً منه وزيراً آخر يثق في ولائه وقدراته، وهو "زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع"، وفي ذات الوقت فإنه أقرّ قائد الجيش في مكانه وهو "فارس الدين أقطاي الصغير الصالحي" (مع أنه من المماليك البحرية الصالحية( إلا أنه وجد فيه كفاءة عسكرية وقدرة قيادية وأمانة وصدق، وهي مؤهلات ضرورية لأي إمارة.. (وطبعاً "فارس الدين أقطاي الصغير" هذا غير "فارس الدين أقطاي" زعيم المماليك البحرية السابق، والذي قتل في سنة 652 هجرية قبل هذه الأحداث بست سنوات(..
…وبذلك فإن قطز رحمه الله قد حفظ الأمانة، ووسد الأمر لأهله، وبصرف النظر عن كونهم من المماليك البحرية أو المعزية.. وهذا تجرد واضح من قطز رحمه الله.. كما أنه ذكاء سياسي واضح أيضاً.. فهو بهذا يستميل قلوب المماليك البحرية الذين فروا في أنحاء الشام وتركيا، ويبث الاطمئنان في نفوسهم، وهذا - ولا شك - سيؤدي إلى استقرار الأوضاع في مصر، كما أنه سيجعل البلاد تستفيد من الخبرات العسكرية الفذة للمماليك البحرية..
…كما قام قطز أيضاً بالقبض على بعض رءوس الفتنة الذين حاولوا أن يخرجوا على سلطته وحكمه، وبذلك هدأت الأمور نسبياً في مصر..
…وعلم قطز رحمه الله أن الناس إن لم يُشغلوا بالجهاد شُغلوا بأنفسهم، ولذلك فبمجرد أن اعتلى عرش مصر أمر وزيره زين الدين، وكذلك قائد الجيش فارس الدين أقطاي الصغير أن يجهزا الجيش، ويعدا العدة، وينظما الصفوف.. فانشغل الناس بهذه الغاية النبيلة، والمهمة الخطيرة: "الجهاد في سبيل الله"..
…إذن الخطوة الأولى في سياسة قطز رحمه الله كانت السيطرة على الوضع الداخلي للبلاد، وشغل الناس بالقضايا المجمعة للأمة، وإبراز الهدف الحقيقي من السلطان، وهو إقامة الشرع والدفاع عن البلاد، والقيام بشئون الرعية، وحماية مصالح العباد، وليس مجرد جمع المال، وضمان توريث الكرسي للأبناء، بل وأبناء الأبناء..
…وبذلك استقرت الأحوال المحلية في مصر، وتوحد الصف الداخلي، وهذه خطوة عظيمة جداً في بناء الأمم..
…أما الخطوة الثانية لقطز رحمه الله في إعداده للتتار فكانت خطوة في منتهى الروعة والحكمة، وأبرزت الأخلاق الرفيعة جداً لقطز رحمه الله..
…لقد أصدر قراراً بالعفو العام "الحقيقي" عن كل المماليك البحرية!!.. وأقصد بكونه "حقيقياً" أنه لم يكن خدعة سياسية لأجل معين، ولم يكن هذا العفو "شهر عسل" مؤقت إلى أن تهدأ الأمور.. إنما كان أمراً يهدف فعلاً إلى المصالحة الحقيقية، ويرمي بصدق إلى إصلاح الأوضاع، ولَمّ الشمل، ودرء المفاسد..
… لقد كان قراراً في منتهى الروعة!!.. على عكس ما يفعل بعض الزعماء السياسيين الذين لم يتفقهوا بعد في السياسة, ولا يدركون موازين القوى في بلادهم؛ فيتعاملون تعاملاً غبيًا مع الأحداث.. فهو إما أن يقصي القوى الفاعلة في المجتمع تمامًا عن كل شيء؛ لأنها على خلاف معه! وأحيانًا يقيد حريتهم.. وأحيانًا يخرجهم من البلاد تمامًا... إما أن يفعل ذلك وإما أن يتجاهلهم تمامًا وكأنهم لا وجود لهم.. يضع رأسه في الرمال.. لا يعترف بوجودهم.. يُنكر طاقاتهم.. يهمل كيانهم...
كل هذا ولا شك لا يصب أبدًا في مصلحة البلد أو مصلحة الشعب..
أما قطز رحمه اله فكان رجلاً متجردًا لله.. محبًا لوطنه وأمته.. يفعل ما فيه المصلحة ولو كان خطرًا على كرسيه وسلطته..
…لقد مر بنا كيف أنه قد حدثت فتنة بين المماليك البحرية وبين المماليك المعزية، وكانت بدايات الفتنة من ست سنوات (سنة 652 هـ) عندما قُتل فارس الدين أقطاي زعيم المماليك البحرية، ثم بدأت الفتنة تتفاقم تدريجياً إلى أن وصلت إلى الذروة بعد مقتل الملك المعز عزّ الدين أيبك ثم شجرة الدرّ، ووصل الأمر إلى أن معظم المماليك البحرية ـ وعلى رأسهم القائد ركن الدين بيبرس ـ فروا من مصر إلى مختلف إمارات الشام، ومنهم من شجع أمراء الشام على غزو مصر، ووصل الأمر إلى حد خطير.. فلما اعتلى قطز رحمه الله عرش مصر أصدر قراره الحكيم جداً بالعفو عن المماليك البحرية، وبدعوتهم إلى العودة إلى مصر بلدهم..
…لقد أبرز هذا القرار الرائع أخلاق قطز الرفيعة، ونسيانه لكل الضغائن السابقة، وذلك مع كون القوة في يديه، وهذا من أرفع الأخلاق: "العفو عند المقدرة"، كما أبرز هذا القرار النظرة السياسية العميقة لقطز رحمه الله، فقوات المصريين من المماليك المعزية وغيرهم قد لا تكفي لحرب التتار، ولا شك أن المماليك البحرية قوة عظيمة جداً وقوية جداً، ولها خبرات واسعة في الحروب، وقد اشترك الكثير منهم في حروب الصليبيين السابقة، ومن أشهرها موقعة "المنصورة" العظيمة، والتي كانت منذ عشر سنوات (سنة 648 هجرية(.. فإضافة قوة المماليك البحرية إلى قوة المماليك المعزية ستنشئ جيشاً قوياً أقدر على مهاجمة التتار، وهذا مما لا يشك فيه أحد، إذ إنه معلوم أن الوحدة طريق النصر، كما أن التنازع والتصارع والفرقة طريق الفشل والهزيمة..
وقطز رحمه الله يعلم أن أوضاع المماليك البحرية في بلاد الشام غير مستقرة، وما ذهبوا إلى هناك إلا مضطرين، وأملاكهم وحياتهم وقوتهم في مصر، وهو بهذا الإعلان النبيل الذي قام به سيستقدم عدداً لا بأس به منهم، وقد تحقق له فعلاً ما أراد، ومنذ أن أعلن هذا القرار والمماليك البحرية تتوافد على مصر من بلاد سلاجقة الروم (تركيا الآن(، ومن الكرك بالأردن، ومن دمشق، ومن غيرها، وهكذا صار المماليك قوة واحدة من جديد، واستقبلهم قطز استقبالاً لائقاً، ولم يتكبر عليهم تكبر المتمكن، بل عاملهم كواحد منهم..
…وإذا كان فعل قطز النبيل مع كل المماليك البحرية في كفة، ففعله النبيل مع قائد المماليك البحرية ركن الدين بيبرس في كفة أخرى.. فبيبرس هو أخطرهم مطلقاً، ولو كان في نفس قطز غدر أو خيانة أو مصالح سياسية مجردة من الأخلاق ما استقدم بيبرس إلى مصر أبداً..
وكان بيبرس قد فرَّ من مصر إلى الناصر يوسف صاحب دمشق ـ ذلك الرجل الخائن الذي كان موالياً للتتار في فترات كثيرة، ومدعياً الجهاد ضدهم في فترات أخرى ـ وقد أنكر عليه بيبرس خضوعه أمام التتار وعزمه على عدم القتال، ولكن الناصر يوسف لم يسمع له، وعندما قدم التتار في اتجاه دمشق فرّ الناصر يوسف ومن معه إلى الجنوب، واضطر بيبرس ـ وقد وجد نفسه بمفرده ـ أن يهرب هو الآخر إلى الجنوب في اتجاه فلسطين، حيث واصل الناصر يوسف فراره إلى الكرك ثم إلى الصحراء.. ووجد بيبرس نفسه وحيداً في غزة ولم يدر ماذا يفعل!..
…في هذا الموقف العصيب، وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وهو الذي كان قائداً للمماليك البحرية بأكملهم، أي بمثابة وزير الحربية في زماننا، في هذا الموقف العصيب وهو مشتت بين قوات التتار القادمة من الشمال، والملك الناصر الذي فر إلى الصحراء، ومصر التي هرب منها.. في هذا الموقف الصعب يأتيه خطاب قطز رحمه الله يعرض عليه القدوم إلى مصر معززاً مكرماً مرفوع الرأس محفوظ المكانة!!.. أية أخلاق عالية من قطز!.. وأي فقه سياسي بارع!..
لقد كان قطز رحمه الله يدرك أموراً كثيرة هامة..
يدرك أولاً الكفاءة القتالية العالية جداً، والمهارة القيادية رفيعة المستوى لركن الدين بيبرس، والحمية الإسلامية لهذا القائد الفذ..
ويدرك ثانياً الذكاء الحاد الذي يتميز به بيبرس، والذي سيحاول قطز أن يوظفه لصالح معركة التتار بدلاً من أن يُوظف في معارك داخلية ضد المماليك المعزية..
ويدرك ثالثاً ولاء المماليك البحرية لركن الدين بيبرس، وأنه إن ظل هارباً فلا يأمن أحد أن ينقلب عليه المماليك البحرية في أي وقت، لذلك فمن الأحكم سياسياً أن يستقطب بيبرس لصفه، ويعظم قدره، ويستغل قدارته وإمكانياته، وبذلك يضمن استقرار النفوس، وتجميع الطاقات لحرب التتار بدلاً من الدخول في معارك جانبية لا معنى لها..
لذلك لما قدم بيبرس إلى مصر بعد استقدام قطز له، عظّم قطز من شأنه جداً، وأنزله دار الوزارة، وعرف له قدره وقيمته، بل وأقطعه "قليوب" وما حولها من القرى، وعامله كأمير من الأمراء المقدمين، بل وسيجعله كما سنرى على مقدمة جيوشه، وهكذا نتعلم من قطز رحمه الله العفو عند المقدرة، وإنزال الناس منازلهم، والفقه السياسي الحكيم، والحرص على الوحدة، ونتعلم منه شيئاً في غاية الأهمية في الأصول الإسلامية: وهو أنه ليس معنى أن يكون الإنسان سياسياً حكيماً بارعاً أن يتنازل عن أخلاقه؛ فليست السياسة في الإسلام نفاقاً، وليست السياسة في الإسلام ظلماً، وليست السياسة في الإسلام كبراً، وليست السياسة في الإسلام فقداناً للضمير أو خلفاً للعهد أو نقضاً للمواثيق.. بل السياسة في الإسلام جزء لا يتجزأ من الدين.. فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يفصل بينها وبين الدين، ولا أن تستخدم فيها معايير تختلف مع أصول الإسلام.. كما علمنا قطز رحمه الله أن القائد الذي يثق في نفسه لا يمانع من ظهور طاقات بارزة إلى جواره، وذلك على عكس ما يفعل كثير من الزعماء الضعفاء فلا يسمحون أبداً لأي كفاءة أن تبدع إلى جوارهم، وذلك لكي لا يصبح لهذه الكفاءات رصيد من الحب والاحترام عند الشعب فتقوى مكانتهم، ويرتفع قدرهم، ومن ثم قد ينازعون الزعيم سلطانه، وما كل هذه المخاوف في قلوب هؤلاء الزعماء إلا لإحساسهم بضعفهم وصغارهم وافتقادهم للرصيد الحقيقي من الحب عند شعوبهم، ولكن قطز رحمه الله لم يكن من هذه الزعامات الفارغة، إنما كان زعيماً قوياً ذكياً مخلصاً واعياً محباً لدينه ووطنه وأمته.. كان يدرك من نفسه هذه الأمور، وكذلك كان الشعب يدرك عنه هذه الأمور، ومن ثم لم يكن هناك داع للتردد أو الخوف..
وهكذا انضمت قوة المماليك البحرية ـ وعلى رأسها القائد ركن الدين بيبرس ـ إلى قوة الجيش المصري المسلم، ولا شك أن هذا رفع من معنويات المصريين جداً..
لقد كانت خطوة العفو عن المماليك البحرية من أعظم الخطوات في حياة قطز رحمه الله وحقاً كانت كل خطواته عظيمة..
إذن كانت الخطوة الأولى لقطز رحمه الله هي الاهتمام بالاستقرار الداخلي للبلاد، وكانت خطوته الثانية هي استقدام الفارّين من المماليك البحرية، والاستفادة من طاقاتهم وإمكانياتهم، وتقوية الجيش بهم..
أما الخطوة الثالثة له فكانت أيضاً خطوة رائعة!.. بل في غاية الروعة!!..
فبعد الاستقرار "الداخلي" في مصر حرص قطز على الاستقرار "الخارجي" مع جيران مصر من المسلمين..
فالعلاقات ـ كما فصلنا قبل ذلك ـ كانت متوترة جداً جداً مع إمارات الشام الأيوبية، وقد فكروا أكثر من مرة في غزو مصر، ونقضوا الحلف الذي كان بين مصر والشام أيام الصالح أيوب، واستقطبوا المماليك البحرية عندهم عندما فروا من مصر، وهم يتربصون بمصر الدوائر في كل يوم، بل إن الناصر يوسف الأيوبي أمير دمشق وحلب كان قد طلب من التتار بعد سقوط بغداد أن يعاونوه في غزو مصر!!..
مع كل هذه الخلفيات المعقدة للعلاقة بين مصر والإمارات الأيوبية إلا أن قطز سعى لإذابة الخلافات التي بينه وبين أمراء الشام، وكان يسعى إلى الوحدة مع الشام، أو على الأقل تحييد أمراء الشام، فيخلوا بينه وبين التتار دون أن يطعنوه في ظهره كما اعتادوا أن يفعلوا..
ووجد قطز رحمه الله أن رأس هؤلاء والمقَدَّم عليهم هو الناصر يوسف الأيوبي صاحب إمارتي حلب ودمشق، وهو أكبرهم، ويحكم أعظم مدينتين في الشام، وكان قطز يعلم تمام العلم كراهية الناصر يوسف له، ويعلم بأنه طلب من التتار أن يساعدوه في حربه.. ومع كل هذا فقد أرسل له قطز رحمه الله رسالة تفيض رقة وعذوبة، وكأنه يخاطب أقرب المقربين إليه... (وأورد هذه الرسالة المقريزي في السلوك (...
وكانت هذه الرسالة قبل قدوم التتار إلى حلب، واحتمال التعاون بين التتار والناصر يوسف قائم، فأراد قطز أن يوحد بينه وبين الناصر يوسف ـ على ما به من عيوب وخطايا ـ بدلاً من أن يضطر قطز إلى مواجهة جيش الشام من المسلمين، ولكن قطز كان يعلم أن أعظم أهداف الناصر هو البقاء على كرسي الحكم، ولن يضحي به مهما كانت الظروف، لذلك فإن قطز أرسل له رسالة عجيبة فعلاً!..
لقد أرسل له يعرض عليه الوحدة ، على أن يكون الناصر يوسف الأيوبي هو ملك مصر والشام!!!.. لقد عرض عليه أن يكون هو - أي قطز - تابعاً للناصر يوسف، مع أن موقف قطز العسكري الآن أفضل بكثير من موقف الناصر يوسف، ومع أن مصر كدولة أقوى بكثير من مدينتي حلب ودمشق!!..
لقد قال له قطز رحمه الله في رسالته أنه لا ينازع الملك الناصر في الملك ولا يقاومه، وأنه ـ أي قطز ـ نائب عن الناصر في ديار مصر، وأن الناصر متى جاء إلى مصر أجلسه فوراً على كرسي الحكم فيها!!!..
هذه أمور لا يتخيلها إنسان بموازين السياسة المادية، ولا يمكن أن تُفهم إلا إذا أدخلت في حساباتك البعد الإيماني الأخلاقي ـ لا السياسي فقط ـ عند قطز..
ثم إن قطز رحمه الله علم أن الناصر يوسف قد يتشكك في أمر الوحدة الكاملة، أو في أمر القدوم إلى مصر، فعرض عليه أن يقوم (أي: قطز) بإمداده بالمساعدة لحرب التتار، فتتحقق المصلحة المشتركة في هزيمة التتار، وإن لم تتحقق الوحدة الكاملة بين مصر والشام..
قال قطز في أدب جمّ، وخلق رفيع:
"وإن اخترتَني خَدَمْتُكَ، وإن اخترتَ قَدِمْتُ وَمَنْ معي من العَسْكر نجدةً لك على القادم عليك، فإن كنت لا تَأْمَن حُضوري سَيَّرْتُ لك العساكر صُحْبَةَ من تختاره!!"..
فهو يعطي الناصر يوسف صلاحيات اختيار قائد الجيش المصري الذي يذهب لنجدته في الشام!!..
لكن الناصر يوسف لم يستجب لهذه النداءات النبيلة من قطز، وآثر التفرق على الوحدة، فماذا كانت النتيجة؟!
لقد مرت الأيام، وسقطت حلب، وهُدّدت دمشق، وفرّ الناصر فراره المخزي إلى فلسطين، وعند فلسطين حدث الذي كان لابد أن يحدث منذ زمن.. لقد خرج جيش الناصر عن طوعه، وآثر الانضمام إلى جيش مصر حيث القائد المحنك المسلم المخلص "قطز"، وحيث القضية الواضحة والهدف الثابت، وحيث الجهاد في سبيل الله, لا في سبيل الكرسيّ..
وعلى قدر نجاح القائد الفذ قطز فإن الناصر يوسف قد فشل في كل امتحاناته.. لقد فشل أمام التتار، وفشل أمام قطز، وفشل أمام جيشه، وفشل أمام شعبه، والآن اتجه جيشه إلى مصر، بينما فرّ هو وحيداً إلى حصن الكرك بالأردن، ثم لم يطمئن هناك فترك الحصن، واتجه إلى الصحراء عند بعض الأعراب!..
عندما وصل الناصر يوسف إلى المكان الذي اختفى فيه في الصحراء في منطقة تسمى "الجفر" في جنوب الأردن إذا بالمجموعة التترية التي أرسلها هولاكو للقبض عليه تلقاه في ذلك المكان، فأمسكوا به ذليلاً هو وابنه (العزيز!!)، واقتادوهما إلى هولاكو، ولكن هولاكو كان قد غادر حلب إلى تبريز في فارس كما وضحنا سابقاً، فتوجهوا به إلى هولاكو في تبريز، وهناك بعد أن استقبل هولاكو الناصر فكر في أن يبقيه على قيد الحياة ليستعمله في قيادة الشام بعد ذلك لطول خبرته، ولخسة نفسه، فلم يقتله بل رده مع جنده إلى الشام، وفي الطريق التقى الناصر يوسف ببعض التتار الفارين من الشام بعد هزيمة عين جالوت كما سيأتي فرأوا الناصر فقتلوه!..
لقد كانت هذه نهايات ذليلة جداً لأمراء كان من الممكن أن يرتفعوا فوق الأعناق، ويُخَلدوا في التاريخ، لو رفعوا راية الجهاد بصدق، ولكنهم آثروا الذل على العزة، وفضلوا الحياة التعيسة الضنك على الموت الشريف في سبيل الله..
وهكذا ازداد قطز رحمه الله قوة بانضمام جيش الناصر الشامي له، وبقتل الناصر الذي كان يمثل حجر عثرة في طريق المسلمين..
ولم يكتف قطز رحمه الله بهذه الجهود الدبلوماسية مع الناصر بل راسل بقية أمراء الشام، فاستجاب له الأمير "المنصور" صاحب حماة، وجاء من حماة ومعه بعض جيشه للالتحاق بجيش قطز في مصر..
أما المغيث عمر صاحب الكرك بالأردن فقد آثر أن يقف على الحياد، فقد كان من الذين عاونوا الناصر في حركة الجهاد المزعومة التي قام بها الناصر، ولما فر الناصر عاد المغيث عمر إلى حصن الكرك، وهو ليس من أهل الجهاد، ويكنّ كراهية كبيرة للمماليك، ولا ننسى أنه حاول مرتين قبل ذلك أن يحتل مصر، وصده قطز في المرتين، فآثر المغيث عمر أن يظل مراقباً للأحداث للالتحاق بعد ذلك بالمعسكر الفائز سواء كانوا من المسلمين أو من التتار.. ولا يجب أن يغيب عنا في ذلك الموقف عظمة قطز الذي تناسى محاولات المغيث عمر لاحتلال مصر، ولم يجعل هذه الخلفية الكئيبة سبباً للفرقة بين المسلمين..
وأما الأشرف الأيوبي صاحب حمص فقد رفض الاستجابة تماماً لقطز، وفضل التعاون المباشر مع التتار، وبالفعل أعطاه هولاكو إمارة الشام كلها ليحكمها باسم التتار!..
وأما الأخير وهو الملك السعيد (هذا لقبه!) "حسن بن عبد العزيز" صاحب بانياس فقد رفض التعاون مع قطز هو الآخر رفضاً قاطعاً، بل انضم بجيشه إلى قوات التتار يساعدهم في فتح بلاد المسلمين!!..
وهكذا خرج قطز من علاقاته الدبلوماسية الخارجية بأمور مهمة.. فقد تحالف مع أمير حماة "المنصور".. وانضم إليه أيضاً جيش الناصر، وحيّد إلى حد كبير المغيث عمر صاحب الكرك.. وهذه النتائج تعتبر نتائج هامة جداً ومؤثرة للغاية، وحتى الانضمام السافر للأمير الأشرف الأيوبي والملك السعيد بن عبد العزيز إلى التتار كان مهماً، حيث إنه كشف أوراقهما بجلاء، وبُنيت خطة قطز على أساس وضوح الرؤية تماماً..
ونعود لنرتب الأوراق مع قطز رحمه الله:
ـ أولاً: الوضع الداخلي مستقر، والحكومة الجديدة تدين بالولاء التام لقطز..
ـ ثانيا: المهمة الأولى للدولة في تلك الآونة واضحة ومعلنة، وهي إعداد جيش قوي لمقابلة التتار في معركة فاصلة )وضوح الهدف(..
ـ ثالثاً: العفو عن المماليك البحرية أشاع جواً من الهدوء النفسي والراحة القلبية عند عموم شعب مصر وليس عند المماليك البحرية فقط، فمن المؤكد أن جو المشاحنات يترك آثاره السلبية ليس على القادة والجيش فقط وإنما على الشعب كله، ولا شك أيضاً أن الجيش المصري قد ازداد قوة باتحاد طرفيه الكبار المماليك البحرية والمماليك المعزية..
ـ رابعاً: انضم إلى جيش مصر الكثير من الجنود الشاميين.. وهؤلاء هم معظم جيش الناصر يوسف صاحب دمشق وحلب، وجيش حماة وعلى رأسه المنصور أمير حماة..
كان هذا هو الوضع السياسي والعسكري لمصر في أوائل سنة 658 هجرية، وقد سقطت في ذات الوقت حلب ودمشق وكل فلسطين حتى غزة تحت حكم التتار، والمعروف أن غزة قريبة جداً من الحدود المصرية (أقل من خمسة وثلاثين كيلومترًا)..
إذا كان هذا هو الوضع بالنسبة للسلطة الحاكمة وبالنسبة للجيش.. فماذا كان الوضع بالنسبة للشعب في ذلك التوقيت؟.
كيف كانت حالتهم النفسية ومعنوياتهم وتربوياتهم وأهدافهم؟
هل كان الشعب مؤهلاً لمثل هذا الصدام المروع الذي سيحدث بعد أيام أو شهور مع أكبر وأقوى قوة على وجه الأرض على الإطلاق؟؟ هل يستطيع شعب مصر أن يقف في مواجهة تلك القوة العاتية التي أسقطت نصف العالم تحت سيطرتها؟!
الواقع أن الشعب في تلك الآونة كان يعاني من أزمة اقتصادية طاحنة، والأزمات الاقتصادية عادة ما تؤثر كثيراً على حياة الشعوب، فيفقدون الطموح في أي شيء، ولا يرغبون إلا في الحصول على لقمة العيش، إلا إذا جاء القائد الذي يعظم عندهم الموت في سبيل الله، ويرفع عندهم قيمة الدين، فعندها تهون المشاكل المادية والأزمات الاقتصادية إلى جانب الهدف الأعلى: "الجهاد في سبيل الله".. وعندها يصبح الموت في سبيل الله أمنية.
لكن الوضع الذي استلم فيه قطز حكم مصر كان وضعاً صعباً للغاية؛ فالفتن الدائرة على كرسي الحكم منذ عشر سنوات جعلت الحكام لا يلتفتون كثيراً إلى شعوبهم، إنما كان همّهم تثبيت دعائم ملكهم فقط، وكانت أحلام شعوبهم تأتي في مراتب متأخرة جداً في أولوياتهم.. ولذلك لم يكن المصريون في ذلك الوقت بالشعب الأمثل الذي يشتاق إلى مثل ذلك اليوم الذي يقابل فيه التتار، ولا يحلم بذلك اليوم الذي ينتصر فيه عليهم، بل على العكس، كان الشعب ـ كغيره من شعوب المسلمين ـ يخاف من التتار، ويصيبه الذعر الشديد، والهلع الكبير، عند سماع أخبار الجيوش التترية، وكلما اقترب التتار بصورة أكبر من مصر اضطربت الأفئدة, وتزعزعت النفوس..
ولذلك كانت مهمة رفع الهمة عند هذا الشعب، ورفع روحه المعنوية، وتحميسُه على المقاومة.. كانت هذه المهمة من أصعب المهام التي واجهت قطز رحمه الله.. فالجيش غير المؤيد بشعبه جيش لا يقوى أبداً على الصمود..
لابد من السند الشعبي للقائد والجيش، وإلا فالنصر مستحيل..
كان لزاماً على قطز رحمه الله أن يوجه اهتماماً خاصاً لتربية شعبه على معاني الجهاد والتضحية والبذل والعطاء، والفداء للدين والحمية للإسلام..
وإن كانت هذه المهمة شاقة، فقد حفظ الله عز وجل لشعب مصر في ذلك الوقت قيمتين عظيمتين سَهّلتا نسبياً من مهمة قطز رحمه الله..
أما القيمة الأولى التي حُفظت في مصر في ذلك الوقت فهي قيمة العلوم الشرعية وعلماء الدين؛ فطوال أيام الأيوبيين في مصر، ومنذ أن رسّخ صلاح الدين الأيوبي رحمه الله المذهب السني في مصر بعد قضائه على الدولة الفاطمية الفاسدة.. وقيمة العلماء مرتفعة في أعين الناس والحكام على السواء.. حتى إنه لما صعدت شجرة الدرّ إلى كرسي الحكم، وقام العلماء بإنكار ذلك وكتابة الرسائل المعادية للملكة، وتحفيز الناس على رفض هذا الأمر، ما استطاعت شجرة الدرّ ولا أحد من أعوانها أن يوقفوا هذه الحركة الجريئة من العلماء، وما قُيدت حرية عالم أبداً، ولا غُيّب في ظلمات السجون، ولا مُنع من إعطاء الدروس والخطب!!.. ثم كان من جراء أسلوب الأيوبيين في تربية المماليك على الدين أساساً، ثم على الفروسية والقتال، أن احتاج الحكام إلى العلماء باستمرار.. كما أثرت هذه التربية الدينية في المماليك أنفسهم، فأصبحوا يعظمون العلم والعلماء، وإذا قام الرجل ليقول: قال الله عز وجل، وقال رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم استمع له الناس والحكام على السواء وأنصتوا..
وشتان بين شعب ابتعد عن الدين ولكنه ما زال يقدره ويقدر العلماء، وشعب آخر تربى على اعتبار الدين من التقاليد القديمة التي قد تُعظم تعظيماً رمزياً كأي أثر تاريخي!!..
لقد كان من المستحيل في مصر أيام الأيوبيين والمماليك أن يهزأ أحد بعالم دين، أو بشيخ في مسجد، أو بمأذون شرعي، أو بأي رجل حمل صبغة إسلامية.. كما كان من المستحيل على هذا الشعب أن يرفض أي مبدأ إسلامي أو قانون شرعي.. نعم قد يخالف الشعب أحياناً لضعف في الإرادة، أو لهوى في النفس، ولكنه يخالف وهو يعلم أنه يخالف، ولم يأت له أبداً من يقول له: إن المحرمات كالربا والخمور والرقص والملاهي والإباحية والولاء للنصارى... لم يأت له من يقول إن هذه المحرمات أصبحت حلالاً.. ولم يأت من يحرم عليه أمراً حلالاً كذلك، لا في شكل ولا في مضمون.. ولم توقف الحلقات في المساجد، ولم يمنع العلماء من صعود المنابر، ولم تُصادَر الكلمة، ولم تُقتَل النصيحة..
لقد كان الشعب معظماً للدين.. وكان الشعب محباً للإسلام..
ولهذه القيمة العالية للعلم والعلماء في مصر كانت مصر ملاذاً للعلماء الذين لا يجدون في بلادهم فرصة لتعليم الناس، أو يجدون مقاومة من حكامهم لسبب من الأسباب، ولهذا فزيادة على علماء مصر وعلماء الأزهر الشريف ـ والذي أصبح سنياً تماماً بعد ذهاب الدولة الفاطمية ـ جاء إلى مصر علماء أفاضل من بلاد إسلامية أخرى، ولا شك أن هؤلاء العلماء أضافوا إضافات جليلة لحركة العلم في مصر..
وعلى رأس هؤلاء العلماء الشيخ البار، والعالم الفذ، والإمام الجليل: "العز بن عبد السلام" رحمه الله، والملقب "بسلطان العلماء"..
وهنا لابد لنا من وقفة مع هذا العالم الجليل..
"العزّ بن عبد السلام" رحمه الله من أعظم علماء المسلمين على الإطلاق، وهو من مواليد دمشق سنة 577 هجرية، أي إنه عند ولاية قطز كان قد تجاوز الثمانين من عمره، والعزّ بن عبد السلام من العلماء الذين لا يخافون في الله لومة لائم، وكان كثيراً ما يواجه السلاطين بأخطائهم، وينصحهم في الله دون خوف ولا وجل، ولذلك لقبه تلميذه الأول وعالم الإسلام المشهور "ابن دقيق العيد" رحمه الله بلقب "سلطان العلماء"، فقد جمع العزّ بن عبد السلام رحمه الله بين العلم والعمل، وبين الاتباع الشديد للسنة والاجتهاد الصحيح عند الحاجة، وبين الفتوى في الأمور العبادية والعقائدية والفتوى في الأمور السياسية والاجتماعية.. فكان بحق سلطاناً للعلماء، وقدوة للدعاة، وأسوة للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر..
…وقد عاش حياته رحمه الله في دمشق إلى أن تولّى "الصالح إسماعيل الأيوبي" أمر دمشق وهو أخو الصالح أيوب الذي كان حاكماً لمصر، والذي تحدثنا كثيراً عنه وعن صلاحه وتقواه، لكن الصالح إسماعيل حاكم دمشق كان على شاكلة أخرى، فقد كان خائناً لدينه وشعبه، فتحالف مع الصليبيين لحرب أخيه نجم الدين أيوب في مصر، وكان من شروط تحالفه مع الصليبيين أن يعطي لهم مدينتي صيدا والشقيف، وأن يسمح لهم بشراء السلاح من دمشق، وأن يخرج معهم في جيش واحد لغزو مصر، وبالطبع ثار العالم الجليل العز بن عبد السلام، ووقف يخطب على المنابر ينكر ذلك بشدة على الصالح إسماعيل، ويعلن في صراحة ووضوح أن الصالح إسماعيل لا يملك المدن الإسلامية ملكاً شخصياً حتى يتنازل عنها للصليبيين، كما أنه لا يجوز بيع السلاح للصليبيين، وخاصة أن المسلمين على يقين أن الصليبيين لا يشترون السلاح إلا لضرب إخوانهم المسلمين.. وهكذا قال سلطان العلماء كلمة الحق عند السلطان الجائر الصالح إسماعيل.. فما كان من الصالح إسماعيل إلا أن عزله عن منصبه في القضاء، ومنعه من الخطابة، ثم أمر باعتقاله وحبسه، وبقي العالم الجليل مدة في السجن، ثم أُخرج من سجنه ولكنه مُنع من الكلام والتدريس والخطابة، فرحل الإمام الجليل من دمشق إلى بيت المقدس ليجد فرصة ليعلم الناس هناك بدلاً من السكوت في دمشق، وأقام بها مدة، ولكنه فوجئ بالصالح إسماعيل يأتي إلى بيت المقدس ومعه ملوك الصليبيين وجيوشهم وهم يقصدون مصر لاحتلالها، وأرسل الصالح إسماعيل أحد أتباعه إلى الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله، وكان متلطفاً له غاية التلطف، بل ووعده بالعودة إلى كل مناصبه بشرط أن يترضى الصالح إسماعيل، ويعتذر له، وبشرط ألا يتكلم في أمور السياسة، وإلا اعتقله..
وذهب رسول الصالح إسماعيل إلى العز بن عبد السلام رحمه الله وقال له: "بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه، وزيادة، أن تنكسر للسلطان، وتُقبل يده لا غير!"..
فرد عليه العز بن عبد السلام رحمه الله في كبرياء وعزة فقال:
"والله يا مسكين، ما أرضاه أن يُقبل يدي، فضلاً أن أقبل يده، يا قوم: أنتم في واد، وأنا في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به"..
الله أكبر!!.. هؤلاء هم العلماء بحق!
وكان رد الصالح إسماعيل متوقعاً، فقد أمر باعتقال الشيخ الكبير في بيت المقدس، ووضعه في خيمة مجاورة لخيمته، وكان الشيخ عزّ الدين رحمه الله يقرأ القرآن في خيمته، والسلطان الصالح إسماعيل يسمعه، وفي ذات يوم كان الصالح إسماعيل يتحدث مع ملوك الصليبيين في خيمته والشيخ يقرأ القرآن، فقال الصالح إسماعيل لملوك الصليبيين وهو يحاول استرضاءهم: "تسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟ قالوا: نعم، قال: هذا أكبر علماء المسلمين، وقد حبسته لإنكاره عليّ تسليمي حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق، وعن مناصبه، ثم أخرجته فجاء إلى القدس، وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم"..
يقول الصالح إسماعيل هذا الكلام ليسترضي ملوك النصارى، فقال له ملوك النصارى وقد سقط تماماً من أعينهم: "لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه، وشربنا مرقتها!"..
وحُبس الشيخ العز بن عبد السلام في بيت المقدس إلى أن جاء الملك الصالح نجم الدين أيوب، وخلص بيت المقدس من الصليبيين سنة 643 هجرية، وهنا أخرج الشيخ العز بن عبد السلام من السجن وجاء إلى مصر، حيث استُقبل أحسن استقبال، وقرب جداً من السلطان الصالح أيوب رحمه الله، وأعطاه الخطابة في مسجد عمرو بن العاص، وولاه القضاء..
ومن مواقفه الشهيرة والتي اصطدم فيها مع الصالح أيوب نفسه، أنه لما عاش في مصر اكتشف أن الولايات العامة والإمارة والمناصب الكبرى كلها للمماليك الذين اشتراهم نجم الدين أيوب قبل ذلك، ولذلك فهم في حكم الرقيق والعبيد، ولا يجوز لهم الولاية على الأحرار، فأصدر مباشرة فتواه بعدم جواز ولايتهم لأنهم من العبيد، واشتعلت مصر بغضب الأمراء الذين يتحكمون في كل المناصب الرفيعة، حتى كان نائب السلطان مباشرة من المماليك، وجاءوا إلى الشيخ العز بن عبد السلام، وحاولوا إقناعه بالتخلي عن هذه الفتوى، ثم حاولوا تهديده، ولكنه رفض كل هذا مع إنه قد جاء مصر بعد اضطهاد شديد في دمشق، ولكنه لا يجد في حياته بديلاً عن كلمة الحق، فرفع الأمر إلى الصالح أيوب، فاستغرب من كلام الشيخ، ورفضه، وقال إن هذا الأمر ليس من الشئون المسموح بالكلام فيها، فهنا وجد الشيخ العز بن عبد السلام أن كلامه لا يسمع، فخلع نفسه من منصبه في القضاء، فهو لا يرضى أن يكون صورة مُفتٍ، وهو يعلم أن الله عز وجل سائله عن سكوته كما سيسأله عن كلامه، ومن هنا قرر العالم الورع أن يعزل نفسه من المنصب الرفيع، ومضحياً بالوضع الإجتماعي وبالمال وبالأمان بل وبكل الدنيا..
وركب الشيخ العز بن عبد السلام حماره، وأخذ أهله على حمار آخر، وببساطة قرر الخروج من القاهرة بالكلية، والاتجاه إلى إحدى القرى لينعزل فيها إذا كان لا يُسمع لفتواه، ولكن شعب مصر المقدّر لقيمة العلماء رفض ذلك الأمر، فماذا حدث؟
لقد خرج خلف الشيخ العالم الآلاف من علماء مصر ومن صالحيها وتجارها ورجالها، بل خرج النساء والصبيان خلف الشيخ تأييداً له، وإنكاراً على مخالفيه..
ووصلت الأخبار إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب فأسرع بنفسه خلف الشيخ العز بن عبد السلام واسترضاه، فما قبل إلا أن تنفذ فتواه، وقال له إن أردت أن يتولى هؤلاء الأمراء مناصبهم فلابد أن يباعوا أولاً، ثم يعتقهم الذي يشتريهم، ولما كان ثمن هؤلاء الأمراء قد دفع قبل ذلك من بيت مال المسلمين فلابد أن يرد الثمن إلى بيت مال المسلمين، ووافق الملك الصالح أيوب، وتولى الشيخ العزّ بن عبد السلام بنفسه عملية بيع الأمراء حتى لا يحدث نوع من التلاعب، وبدأ يعرض الأمراء واحداً بعد الآخر في مزاد، ويغالي في ثمنهم، ودخل الشعب في المزاد، حتى إذا ارتفع السعر جداً، دفعه الملك الصالح نجم الدين أيوب من ماله الخاص واشترى الأمير، ثم يعتقه بعد ذلك، ووضع المال في بيت مال المسلمين، وهكذا بيع كل الأمراء الذين يتولون أمور الوزارة والإمارة والجيش وغيرها، ومن يومها والشيخ العز بن عبد السلام يعرف "ببائع الأمراء!"..
يتبدى لنا من هذه القصة، وفي سيرة الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله بصفة عامة، قيمة العلم والعلماء في مصر في ذلك الوقت، واحترام الناس لكلمة الشرع، وكل هذا كان له أثر بالغ في تكوين الشعب المصري، وفي استجابته لنصائح العلماء..
إذن من حديثنا السابق عن العلماء وعن الشيخ العز بن عبد السلام كمثال لهم، يتبين أن قيمة العلم والعلماء كانت عالية جداً، ومحفوظة تماماً في الشعب المصري أيام الأيوبيين والمماليك، وهذا ولا شك سيكون عوناً هاماً لقطز رحمه الله في بث معاني الجهاد والتضحية في الشعب بعد ذلك..
أما القيمة الثانية ـ بعد قيمة العلم والعلماء ـ التي كانت محفوظة في مصر فهي قيمة الجهاد في سبيل الله..
لقد كان المسلمون في مصر في تلك الآونة يؤمنون إيماناً عميقاً بحتمية الجهاد في سبيل الله للأمة التي تريد أن تعيش.. ما سقطت قيمة الجهاد في سبيل الله حتى في أوقات الضعف، وحتى في أوقات الصراع على السلطة، وحتى في أوقات الأزمات الاقتصادية
وكانت الحملات الصليبية المتتالية على مصر والشام سبباً في بقاء هذا الشعور عند المسلمين في مصر، وعلموا أنه من المستحيل أن يكون هناك ما يسمى "بالسلام الدائم".. هذا أمر مستحيل فعلاً.. لأن من سنن الله عز وجل أن يظل الصراع دائراً إلى يوم القيامة بين أهل الحق وأهل الباطل.. وسيظل الحق موجوداً إلى يوم القيامة، وسيظل كذلك الباطل موجوداً إلى يوم القيامة، ولذلك فلن يقف الصراع أبداً إلا أن يتحول كل أهل الباطل إلى الحق، أو يتحول كل أهل الحق إلى الباطل، وهذا افتراض مستحيل، ولذلك فأكذوبة "السلام الدائم" هي أكذوبة ما يراد بها إلا خداع الشعوب وتسكينها وإبعادها عن الاستعداد الدائم للحرب..
لقد كان المسلمون في مصر في ذلك الوقت يعظمون جداً كلمة "الجهاد في سبيل الله"، ويربطونها دائماً بالله عز وجل، ولأن الجيوش الصليبية كانت دائماً أكثر عدداً من الجيوش المسلمة كانت الجيوش المسلمة شديدة الارتباط بربها عند المعارك، وشديدة التضرع إليه، وحريصة على توجيه النية كاملة لله عز وجل.. ولكل ذلك ما سقطت أبداً قيمة الجهاد في سبيل الله، وما وجد في ذلك الزمان من يسفه أمر الجهاد، أو يتهم من أراد الجهاد بأنه "إرهابي" أو "متطرف" أو "أصولي".. لم تكن كلمة الجهاد سبّة، إنما كانت فضلاً عظيماً، وهدفاً سامياً..
ولذلك كان الجيش المصري آنذاك مستعداً دائماً، حريصاً دائماً على استكمال كل أسباب القوة والإعداد، ولم يُفرغ الجيش أبداً لأعمال مدنية كما تفعل الدول التي لا تجاهد ولا تنوي أصلاً أن تجاهد، إنما كان الجيش متفرغاً للتدريب العسكري، وتحديث السلاح، والتمرين على الخطط المختلفة للحروب، وإفراز القيادات الجديدة الماهرة، وحماية البلاد من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، ونجدة المسلمين في البقاع المختلفة..
لقد كان الجيش المصري مستعداً دائماً.. وكان الشعب المصري كذلك مستعداً دائماً..
وشتان بين شعب رُبي على هذه المعاني، وشعب آخر رُبي على أنه لا بديل للسلام، وعلى أن خيار الحرب غير مطروح، وعلى أن الاستراتيجية الصحيحة هي المفاوضات والموائد المستديرة والمستطيلة، والمباحثات الهلامية، والاتفاقات الهزلية..
الشعب الذي من هذه الصورة الأخيرة ينشأ شعباً رخواً مائعاً لا لون له، ولا طعم، ولا هدف له، ولا حمية عنده..
وشعب مصر أيام قطز رحمه الله لم يكن على تلك الصورة..
إذن.. كان الشعب في مصر في الأيام التي صعد فيها قطز رحمه الله إلى كرسي الحكم على الرغم من أزماته الاقتصادية، وظروفه الصعبة، وفزعه من أخبار التتار، وفقدانه الثقة في كثير من زعمائه... كان شعباً واعياً فاهماً مقدراً لقيمة العلم والعلماء، ومحترماً لقيمة الجهاد في سبيل الله كوسيلة حتمية لحل الصراع مع الدول التي تغير على بلاد المسلمين..
وقطز رحمه الله ـ كما رأينا ـ كان واضعاً قضية التتار نصب عينيه من أول يوم حكم فيه البلاد، بل كان واضعاً هذه القضية نصب عينيه في كل حياته من يوم أن كان طفلاً أغار التتار على بلده، وقتلوا أهله، ومروراً بكل مراحل حياته الصعبة، وحياة الرق والعبودية، وانتهاءً بصعوده إلى أعلى منصب في مصر..
…ورأينا كيف خطط قطز رحمه الله لتقوية جيشه، ولتدعيم الصف الداخلي في مصر، ولتحسين العلاقات الخارجية مع الأشقاء المسلمين، ولا شك أنه كان يحتاج إلى وقت طويل، ولكن كثيراً ما تُفرض المعارك على المسلمين فرضاً، فلا يجدون الوقت الكافي للإعداد والتمهيد، ولذلك على الأمم التي تريد أن تعيش أن تكون جاهزة ومستعدة بصورة دائمة..
قصة التتار للدكتور راغب السرجاني