السبت، 10 أكتوبر 2020

عُلُوّ هِمَّةَ أبيِ ذرٍّ رَضِيَ الله عَنْهُ فِي البَحْثِ عَن الحَقِّ


عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:

لما بلغَ أبا ذر مبعثُ النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، قال لأخيه - أنَيس-: اركب إلى هذا الوادي، فَاعْلَم لي عِلمَ هذا الرجل، الذي يَزعُمُ أنه يأتيه الخبرُ من السماء، فاسْمَعْ مِن قولِه ثم ائتني.

فانطلق -أُنيَس- حتى قدم مكة، وسَمِعَ من قولِه، ثم رجع إلى أبي ذر، فقال: "رأيتُه يأمر بمكارم الأخلاق، و -سمعتُه يقول- كلامًا ما هو بالشعر"، فقال أبو ذر: "ما شَفيتَني فيما أردتُ! ".

فتزوَّدَ -أبو ذر- وحمَل شَنّةً (¬1) له فيها ماء، حتى قدم مكة، فأتى المسجد، فالتمس النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يعرفه، وكره أن يَسأل عنه، حتى أدركه الليلُ فاضطجع، فرآه عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه فعرف أنه غريب، ودعاه إلى منزله -فتَبِعَه، فلم يَسأل واحد منهما صاحبَه عن شيء حتى أصبح.

ثم احتَمَل قِرْبَتَه وزاده إلى المسجد، وظَلَّ ذلك اليوم ولا يَرَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمَرَّ به علي فقال: "ما آنَ للرجل أن يَعلمَ منزلَه؟ "، فأقامه فذهب به معه، ولا يَسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان يومُ الثالث فعَلَ مثل ذلك، فأقامه عليٌّ معه، ثم قال له: "ألا تُحدثني ما الذي أقدمك؟ "، قال: "إنْ أعطيتني عهدًا وميثاقًا لترشِدَنِّي فعلتُ"، ففعل، فأخبره، فقال: "فإنه حق، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فإذا أصبحتَ فاتّبِعني، فإن رأيتُ شيئًا أخاف عليكَ قمتُ كأني أريق الماء، فإن مضيتُ فاتبَّعِني حتى تَدخُلَ مَدْخَلي"، ففعل، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ودخل معه، فسمع من قولهِ وأسلم مكانه، الحديث (¬2).

* وهناك رواية أخرى في حادثةِ إسلام أبي ذر، رواها عنه ابنُ أخيه عبد الله بن الصامت الغفاري، وقد رواها مسلم أيضًا من طريق عبد الله بن الصامت الغفاري ابن أخي أبي ذر، وملخَّصُها: قال: قال أبو ذر: خرجنا من قومنا غِفار، وكانوا يُحِلون الشهر الحرام، فخرجتُ أنا وأخي أنَيْس وٍ أمُّنا، فانطلقنا حتى نزلنا بحضرةِ مكة.

فقال أنَيس: إنَّ لي حاجة بمكة فاكفِني، فانطلق أنيَس حتى أتى مكة فراثَ عليَّ -أي أبطأ-، ثم جاء، فقلتُ: "ما صنعتَ؟ "، قال: "لقيتُ رجلًا بمكة يزعم أنَّ الله أرسله"، قلت: "فما يقولُ الناسُ؟ "، قال: "يقولون: شاعر كاهن ساحر"، -وكان أنيَس أحَدَ الشعراء- قال أنَيس: "لقد سمعتُ قولَ الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وَضَعْتُ قوله على أقراءِ الشعر -أي طرقِه- فما يلتئم على لسان أحد أنه شعر، والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون".

قال أبو ذر: "قلت: فأكفِني حتى أذهب فأنظر"، قال: فأتيت مكة، فتضَعّفْتُ رجلاً منهم" -يعني نظرتُ إلى أضعفهم فسألته، لأن الضعيف يكون مأمون الغائلة غالبًا -فقلتُ له: "أين هذا الذي تدعونه الصابئ؟ " فأشار إليَّ، فقال: "الصابئ! "، فمالَ عليَّ أهلُ الوادي بكل مَدَرة وعَظْم، حتى خررتُ مغشيًّا علي، فارتفعتُ حين ارتفعتُ كأني نُصُبٌ أحمر -يعني من كثرة الدماء التي سالت منه، صار كالنُّصُب وهو الحَجَرُ الذي كان أهلُ الجاهلية ينصبونه ويذبحون عنده فيَحمَرُّ بالدم .... قال: فأتيتُ زمزم فغَسلتُ عني الدماء، وشَربتُ من مائها، ولقد لبَثتُ يا ابن أخي ثلاثين بين ليلة ويوم، ما كان لي طعام إلا ماءُ زمزم، فسَمِنتُ حتى تكسّرَت عُكَنُ بطني، وما وجدتُ كل كبدى سُخْفَةَ جُوع -يعني أثَرَ الجوع وضَعْفَه-.

قال: فبينا أهلُ مكة في ليلةٍ قمراء إذ ضُرِب على أسمختهم -أي آذانهم بالنوم - فما يطوف بالبيت أحد، وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر، حتى استَلَم الحَجَر، وطاف بالبيت هو وصاحبُه، ثم صلّى، فلما قضَى صلاته قلتُ: "السلامُ عليك يا رسول الله"، فقال: "وعليك ورحمة الله".

ثم قال: "مَنْ أنت؟ " قلت: "من غِفار"، قال: "فأهوى بيده، فوضَعَ أصابعه على جبهته، فقلت في نفسي: كرِهَ أن انتميتُ إلى غِفار، فذهبتُ آخُذُ بيده، فَقَدَعَني -أي كَفّني- صاحبُه وكان أعلمَ به مني، -يعني فعَلَ هذا لدفع السوء عني وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم--.

ثم رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسَه ثم قال: "متى كنتَ ها هنا؟ " قال: قلتُ: "قد كنتُ ها هنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم"، قال: "فمن كان يُطعمك؟ "، قال: قلت: "ما كان لي طعام إلا ماءُ زمزم، فَسَمِنْتُ حتى تكسّرَتْ عُكَنُ بطني، وما أجدُ على كبِدي سُخفَةَ جوع"، قال: "إنها مباركة إنها طَعامُ طُعْم" -أي هي تُشبع شاربَها كما يُشبعه الطعام-.

فقال أبو بكر: "يا رسول الله ائذن لي في طعامه الليلة"، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وانطلقتُ معهما، ففتح أبو بكر بابًا فجعل يَقبض لنا من زَبيب الطائف، وكان ذلك أوَّلَ طعام أكلتُه بمكة، الحديث (¬3).
_________________________________________

(¬1) الشنة: القربة الخَلَق الصغيرة يكون الماء فيها أبردَ من غيرها.

(¬2) متفّق عليه، واللفظ المسلم.

(¬3) رواه مسلم.



علو الهمة 222 إلى 226
المؤلف: الشيخ محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم
الناشر: دار القمة - دار الإيمان، مصر
عام النشر: 2004 م

عُلُوّ هِمَّة الأَخِ "رحمة بورنومو" في بَحْثِهِ عَنِ الدّينِ الحَقِّ (¬1)




إنه رجل ينتسب إلى أب هولندي وأم إندونيسية من مدينة "أمبون" الواقعة في جزيرة صغيرة في أقصى الشرق من جزر إندونيسيا، والنصرانية هي الدين الموروث لأسرته أبًّا عن جد.

كان جده قسيسًا ينتمي إلى مذهب الروتستانت، وكان أبوه أيضًا قسيسًا على مذهب بانتي كوستا، وكانت والدته معلمة الإنجيل للنساء، أما هو نفسه فقد كان قسًّا، ورئيسا للتبشير في كنيسة "بيتل إنجيل سبينوا"، وقد قال وهو يحكي سبب إسلامه:

(لم يخطر ببالي ولو للحظة واحدة أن أكون من المسلمين، إذ إنني منذ نعومة أظفاري تلقيت التعليم من والدي الذي كان يقول لي دائمًا: "إن محمدًا رجل بدوي صحراوي ليس له علم ولا دراية، ولا يقرأ وأنه أمي"، هكذا علمني أبي، بل أكثر من ذلك فقد قرأت للبروفسور الدكتور ريكولدي النصراني الفرنسي قوله في كتاب له: (بأن محمدًا رجل دجال يسكن في الدرك التاسع من النار)، هكذا كانت تساق المفتريات الكثيرة لتشويه شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم-، ومنذ ذلك الحين تكونَتْ لديَّ فكرة مغلوطة راسخة تدفعني إلى رفض الإسلام، وعدم اتخاذه دينًا لي.

ثم يقول: الواقع أنه لم يكن من أهدافي بحال من الأحوال أن أبحث عن دين الإسلام، ولكني كان يحدوني دائمًا دافع لأن أهتدي إلى الحق، ولكن لماذا كنت أبحث عن الحق المجهول؟. ولماذا تركت ديني رغم أنني كنت أتمتع فيه بمكانة مرموقة بين قومي؛ حيث كنت رئيس التبشير المسيحي في الكنيسة، وكنت أحيا بناء على ذلك حياةً كلها رفاهية ويسر، إذن لماذا اخترت الإسلام؟

لقد بدأت القصة على النحو التالي:

في يوم من الأيام أرسلتني قيادة الكنيسة للقيام بأعمال تبشيرية لمدة ثلالة أيام ولياليها في منطقة "دايري" التي تبعد عن عاصمة "ميدان" الواقعة في شمال جزيرة سومطرة بضع مئات من الكيلومترات، ولما انتهيت من أعمال التبشير والدعوة أويتَ إلى دار مسئول الكنيسة في تلك المنطقة، وكنت فِي انتظار وصول سيارة تقلني إلى موقع عملي، وإذا برجل يطلع علينا فجأة، لقد كان معلمًا للقرآن، وهو ما يسمى في إندونيسيا مطوع في الكُتَّاب، وهو المدرسة البسيطة التي تعلم القرآن، لقد كان الرجل ملفتًا للأنظار، كان نحيف الجسم، دقيق العود يرتدي كوفية بيضاء بالية خلقة، ولباسًا قد تبدل لونه من كثرة الاستعمال، حتى أن نعله كان مربوطًا بأسلاك لشدة قدمه، اقترب الرجل مني، وبعد أن بادلني التحية بادرني بالسؤال التالي، وكان سؤالًا غريبًا من نوعه، قال: "لقد ذكرت في حديثك أن عيسى المسيح إله، فأين دليلك على ألوهيته؟ "، فقلت له: "سواء أكان هناك دليل أم لا فالأمر لا يهمك: إن شئت فلتؤمن، وإن شئت فلتكفر"، وهنا أدار الرجل ظهره لي، وانصرف، ولكن الأمر لم ينته عند هذا الحد، فقد أخذتُ أفكر في قرارة نفسي، وأقول: هيهات هيهات أن يدخل هذا الرجل الجنة، لأنها مخصصة فقط لمن يؤمن بألوهية المسيح فحسب، هكذا كنت أعتقد جازمًا آنذاك.

ولكن عندما عدت إلى بيتي وجدت أن صوت الرجل يجلجل في روعي، ويدق بقوة فِي أسماعي، مما دفعني إلى الرجوع إلى كتب الإنجيل بحثًا عن الجواب الصحيح على سؤاله، ومعلوم أن هناك أربعة أناجيل مختلفة أحدها بقلم متى، والآخَر مارك، والثالث لوقا، والرابع إنجيل يوحنا، هذه التسميات أُخِذَتْ لمؤلف كل منها، أي أن الأناجيل الأربعة المشهورة هي من صنع البشر، وهذا غريب جدًّا، ثم سألت نفسي: "هل هناك قرآن بنسخ مختلفة من صنع البشر؟ " وجاءني الجواب الذي لا مفر منه، وهو: "بالطبع لا يوجد"، فهذه الكتب وبعض الرسائل الأخرى هي فقط مصدر تعاليم الديانة المسيحية المعتمدة!

وأخذت أدرس الأناجيل الأربعة فماذا وجدت؟ هذا إنجيل مَتَّى ماذا يقول عن المسيح عيسى عليه السلام؟ إننا نقرأ فيه ما يلي: "إن عيسى المسيح ينتسب إلى إبراهيم وإلى داود ... إلخ (1 - 1) إذن من هو عيسى؟ أليس من بني البشر؟ نعم إذن فهو إنسان، وهذا إنجيل لوقا يقول: "ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية" (1 - 33)، وهذا إنجيل مارك يقول: "هذه سلسلة من نسب عيسى المسيح ابن الله"، (: 1) وأخيرًا ماذا يقول إنجيل يوحنا عن عيسى المسيح عليه السلام؟ إنه يقول "في البدء كان الكلمة، وكان الكلمة عند الله، وكان الكلمة الله" (1: 1)، ومعنى هذا النص هو في البدء كان المسيح، والمسيح عند الله، والمسيح هو الله.

قلت لنفسي: إذن هناك خلاف بارز بين هذه الكتب الأربعة حول ذات المسيح عيسى عليه السلام أهو إنسان أم ابن الله أم ملك أم هو الله؟ لقد أشكل عليَّ ذلك، ولم أعثر له على جواب، وهنا أحب أن أسأل إخواني النصارى: "هل يوجد في القرآن الكريم تناقض بين آية وأخرى؟ " بالطبع لا - لماذا؟ لأن القرآن من عند الله سبحانه وتعالى، أما هذه الأناجيل فهي من تأليف البشر، إنكم تعرفون ولا شك أن عيسى عليه السلام كان طيلة حياته يقوم بأعمال الدعوة إلى الله هنا وهناك، ولنا أن نتساءل: - ترى ما هو المبدأ الأساسي الذي كان يدعو إليه عيسى عليه السلام؟

هذا إنجيل مارك، يقول: فجاء واحد من الكتبة، وسمعهم يتحاورون، فلما رأى أنه (أي المسيح) أجابهم حسنًا، سأله: أية وصية هي الأولى؟ فأجابه يسوع قائلًا: "إن أولى الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل! الرب إلهنا رب واحد" (12: 28 - 29)، هذا اعتراف صريح من عيسى عليه السلام، إذن لو كان عيسى قد اعترف أن الله هو الإلهُ الواحد الأحد فمن هو عيسى إذن؟ لو كان عيسى هو الله أيضًا، فلن تكون هناك وحدانية لله، أليس كذلك؟

ثم واصلت البحث، فوجدت في إنجيل يوحنا نصوصًا تشير إلى دعاء المسيح عليه السلام، وتضرعه إلى الله سبحانه. فقلت لنفسي: لو كان عيسى هو الله القادر على كل شيء فهل يحتاج إلى هذا التضرع والدعاء؟ طبعًا لا، إذن عيسى ليس إلهًا بل هو مخلوق مثلنا، استمع معي إلى الدعاء الذي ورد في إنجيل يوحنا، هذا هو نص الدعاء: "هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته، أنا مجدتك على الأرض، العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته" (17 - 3 - 4) وهو دعاء طويل يقول في نهايته: "أيها الرب البار، إن العالم لم يعرفك، أما أنا فعرفتك وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتني وعرفتهم اسمك، وسأعرفهم ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به" (17 - 25 - 26).

هذا الدعاء يمثل اعترافًا من عيسى عليه السلام بأن الله هو الواحد الأحد، وأن عيسى هو رسول الله المبعوث إلى قوم معينين، وليس إلى جميع الناس، فأي قوم هم هؤلاء يا ترى؟ نقرأ جواب ذلك في إنجيل متى (15: 24) حيث يقول: "لم أُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة"، إذن لو ضممنا هذه الاعترافات إلى بعضها لأمكننا أن نقول: "إن الله هو الواحد الأحد، وإن عيسى عليه السلام هو رسول الله إلى بني إسرائيل". ثم واصلتُ البحث، فتذكرت أنني حين أكون في صلاتي أقرأ دائمًا العبارات التالية: (الله الأب، الله الابن، الله الروح القدس، ثلاثة في أقنوم واحد)، قلت لنفسي: أمر غريب حقًّا، فلو سألنا طالبًا في الصف الأول الابتدائي "1 + 1 + 1= 3؟ "، لقال: "نعم"، ثم إذا قلنا له: "ولكن أيضًا 3 = 1"، لما وافق على ذلك، إذ إن هناك تناقضًا صريحًا فيما نقول، لأن عيسى عليه السلام يقول في الإنجيل كما رأينا بأن الله واحد، لا شريك له.

لقد حدث تناقض صريح بين العقيدة التي كانت راسخة في نفسي منذ أن كنت طفلاً صغيرًا، وهي: ثلاثة في واحد، وبين ما يعترف به المسيح عيسى نفسه في كتب الإنجيل الموجودة الآن بين أيدينا وهي أن الله واحد أحد لا شريك له، فأيهما هو الحق؟ لم يكن بوسعي أن أقرر آنذاك، والحق يقال، بأن الله واحد أحد، فأخذت أبحث في الإنجيل من جديد لعلي أقع على ما أريد، لقد وجدت في سفر أشعياء النص التالي: "اذكروا الأوليات منذ القديم، لأني أنا الله وليس آخر الإله، وليس مثلي" (46: 9)، ولشد ما كانت دهشتي عظيمة حين اعتنقت الإسلام فوجدت في سورة الإخلاص قول الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: {قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوًا أحد} نعم، ما دام الكلامُ كلامَ الله فهو لا يختلف حيثما وجد، هذا هو التعليم الأول أو البديهية الأولى في ديانتي المسيحية السابقة، إذن "ثلاثة في واحد" لم يعد لها وجود في نفسي.

ثم ينتقل الأخ رحمة بورنومو الإندونيسي إلى نقطة جوهرية أخرى جعلته يختار الإسلام دينًا فهو يقول: أما البديهية الثانية في الديانة المسيحية فتقول بأن هناك ما يسمى بالذنب الوراثي أو الخطيئة الأولى، ويُقصد بهذا أن الذنب الذي اقترفه آدم عليه السلام عندما أكل الثمرة المحرمة عليه من الشجرة في الجنة، هذا الذنب سوف يرثه جميع بني البشر حتى الجنين في رحم أمه يتحمل هذا الإثم ويولد آثمًا، فهل هذا صحيح أم لا؟ لقد أخذت أبحث عن حقيقة ذلك، فلجأت إلى العهد القديم فوجدت في سفر حزقيال ما يلي: "الابن لا يحمل من إثم الأب، والأب لا يحمل من إثم الابن، بر البار عليه يكون، وشر الشرير عليه يكون، فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها، وحفظ كل فرائضي، وفعل حقًّا وعدلاً، فحياة يحيا لا يموت، كل معاصيه التي فعلها لا تذكر عليه" (حزقيال 18: 20 - 21).

لعل من المناسب هنا أن نذكر ما يقولهُ القرآن الكريم في هذا المقام: {ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى} ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "يُولد ابن آدم على الفطرة، وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"، هذه هي القاعدة في الإسلام، ويوافقها ما جاء في الإنجيل، فكيف يقال: "إن خطيئة آدم تنتقل من جيل إلى جيل، وأن الإنسان يولد آثمًا؟ ".

يقول الآخ "رحمة بورنومو" الإندونيسي: إذن هذه التعاليم المسيحية قد اتضح بطلانها وافتراؤها بنص صريح من الكتاب الموصوف بـ "المقدس" نفسه، وهناك البديهية الثالثة في التعاليم النصرانية التي تقول: إن ذنوب بني البشر لا تغفر حتى يُصلب عيسى عليه السلام، لقد أخذت أفكر في هذه البديهية، وأتساءل: "هل هذا صحيح؟ " وكان الجواب الذي لا مفر منه: بالطبع لا، لأن النص الآنف الذكر من العهد القديم ينفي مثل هذا الاعتقاد بقوله: "فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها، وحفظ كل فرائضي، وفعل حقًّا وعدلًا، فحياة يحيا لا يموت، كل معاصيه التي فعلها لا تذكر عليه"، أي أن الله يغفر ذنوبه دون حاجة إلى أية وساطة من أحد.

ويمضي الأخ الإندونيسي الذي كان قسًّا في يوم من الأيام يحدثنا عما فعل بعد ذلك ضمن رحلته الطويلة من الكفر إلى الإسلام، فيقول: لقد واصلت البحث في عدد من القضايا الاعتقادية الأخرى، لقد وضعت يومًا من الأيام كُلًّا من الإنجيل والقرآن أمامي على المنضدة، ووجهتُ السؤال التالي إلى الِإنجيل قلت له: "ماذا تعرف عن محمد؟ " فقال: "لا شىء، لأن اسم محمد غير مذكور في الإنجيل، ثم وجهت السؤال التالي إلى عيسى كما تحدث عنه القرآن فقلت: "يا عيسى ابن مريم ماذا تعرف عن محمد؟ " فقال: "لقد ذكر القرآن بما لا يدع مجالًا للشك أن رسولًا لا بد أن يأتي بعدي اسمه أحمد"، يقول تعالى على لسان عيسى عليه السلام: {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقًا لما بين يدي من التوراة ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين} [الصف: 16] فأي ذلك حق يا ترى؟

ثم يقول: هناك إنجيل واحد هو إنجيل برنابا وهو غير الأناجيل الأربعة التي ذكرناها من قبل، وهذا الإنجيل للأسف حَرَّم رجالُ الدين النصارى على أتباعهم الاطلاعَ عليه، أتدرون لماذا؟ الأرجح أنه لأن هذا الِإنجيل هو الوحيد الذي يتضمن البشرى بسيدنا محمد، وتقل فيه الِإضافات والتحريفات إلى حد أدنى، كما أن فيه حقائق تطابق ما جاء في القرآن الكريم، جاء في إنجيل برنابا (إصحاح 163): وقتئذٍ يسأل التلاميذ المسيح: يا معلم من يأتي بعدك؟ فقال المسيح بكل سرور وفرح: محمد رسول الله سوف يأتي من بعدي كالسحاب الأبيض يُظل المؤمنين جميعًا.

ويمضي الأخ رحمة بورنومو فيقول: ثم قرأت آية أخرى في إنجيل برنابا وهي قوله في (الإصحاح 72): وقتئذ إندرياس (التلميذ) يسأل المسيح: "يا معلم! حين يأتي محمد، ما هي علاماته حتى نعرفه؟ " فقال المسيح: "محمد لا يأتي في عصرنا هذا، وإنما يأتي بعد مئات السنين حين يُحرف الإنجيل، والمؤمنون حينئذ لا يبلغ عددهم ثلاثين نفرًا، فحينئذ يرسل الله سبحانه وتعالى خاتم الأنبياء والمرسلين محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، لقد تردد ذكر ذلك في إنجيل برنابا عدة مرات أحصيتها فوجدت أن فيه خمسة وأربعين آية تذكر محمدًا - صلى الله عليه وسلم-، وقد اكتفيت بالآيتين السابقتين على سبيل الاستشهاد.

بعد ذلك يتحدث الأخ المهتدي الجديد من إندونيسيا عن جانب آخر من دراسته المقارنة فيقول: ومن التعاليم البديهية في الديانة المسيحية أن عيسى عليه السلام هو المنقذ المخلِّصُ للعالم، أي أنك إذا آمنت بألوهية عيسى فسوف تنجو، وهذا يعني أنك يمكنك أن تفعل ما تشاء غيرَ آبه بالذنوب والمعاصي ما دمت تؤمن بعيسى كمنقذ لك، شريطة أن تكون على يقين بأنك من التابعين، قلت لنفسي: لا بد أن أبحث في الإنجيل وأعرف الحق من الباطل في ذلك، في سفر أعمال الرسل رسالة بولس الأولى إلى أهل كورينتوس يقول: الله قد أقام الرب وسُيقيمنا نحن أيضًا بقوته (6: 14)، والقصة كما وردت في التعاليم المسيحية هي كالآتي: أنه لما قبضوا على السيد المسيح عرضوه أمام العدالة فحُكم عليه بالصلب، ثم دُفن فهنا تأتي الآية مناسبة لتلك القصة.

وهنا يعلق الأخ رحمة بورنومو فيقول: لقد تأملت هذه الآية طويلًا ثم قلت: إذا لم يتدخل الله في إقامة المسيح من القبر لبقي مدفونًا تحت التراب إلى يوم القيامة، إذن مادام المسيح لم يستطع إنقاذ نفسه فكيف يكون بوسعه إنقاذ الآخرين؟ هل يليق بإله -كما يزعمون- أن يكون عاجزًا عن ذلك؟ لا أشك لحظة أن كل ذي عقل سيوافقني فيما ذهبت إليه. أليس كذلك؟

ثم يقول: عند ذلك عزمت على الخروج من الكنيسة وعدم الذهاب إليها، كان ذلك في عام 1969 حيث خرجت فعلًا ولم أعد أتردد على الكنيسة، وليس معنى ذلك أنني خرجت ذلك الحين من الديانة النصرانية نفسها، لأنه كما هو معلوم هناك كنائس ومذاهب شتى في الديانة النصرانية، فهناك الكاثوليك، والبروتستانت، والميثوديست، والبلاي كسلامتن، واليونيتاريان، وغيرها كثير، حتىّ أنني أستطيع أن أقول بأن هناك أكثر من 360 مذهبًا في الديانة النصرانية، وصدق الله العظيم {وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}.

قد يقول قائل: وفي الإسلام أيضًا توجد مذاهب وطوائف عدة، فهناك المذاهب الأربعة المعروفة، وهى الحنفي والشافعي والحنبلي والمالكي وغيرها ......

والجواب هو أن أتباع المذاهب .. لا يختلفون في أصول الدين بل يتفقون جميعًا أن الله واحد، لا شريك له، وأن محمدًا رسول الله، كما يتفقون في أركان الإسلام الخمسة، وجوانب الخلاف بينهم في الفروع فقط لا في الأصول، وخلافهم رحمة كما ورد في الأثر، أما في الديانة المسيحية فالأمر مختلف تمامًا إذ الخلاف في صلب العقيدة، وهذا هو الفارق بين الإسلام والمسيحية.

ومهما اختلفت المذاهب في الإسلام فإنك لا تجد مسجدًا يخص مذهبًا معينًا دون سائر المساجد، بل على العكس من ذلك، فإذا نادى المنادي للصلاة تجد كل مسلم يدخل أقرب مسجد ليصلي فيه. ولكن الأمر يختلف تمامًا في الديانة النصرانية: فكل كنيسة تتبع مذهبًا معينًا، ولا يدخلها إلا أتباع ذلك المذهب فحسب، فالكاثوليكي لا يصلي في كنيسة بروتستانتية، والبروتستانتي لا يصلي هو الآخر في كنيسة كاثوليكية، وهكذا.

ثم يمضي الأخ رحمة بورنومو في قصته الشائقة، فيقول: وذات يوم لقيت صديقًا لي فدعاني إلى الكاثوليكية، وأخذ يعدد مميزات لهذا المذهب لم أجد مثلها في مذهبي البروتستانتي، قال صديقي: "في هذا المذهب توجد حجرة الغفران، وهي عبارة عن غرفة في الكنيسة يجلس فيها قس ذو لحية كثيفة يرتدي لباسًا أسود، ويقعد على كرسي عال، ومن طلب العفو والغفران ذهب إليه، ورددَ بعض الألفاظ غير المفهومة، وما أن يكاد يفرغُ من قراءتها حتى يقال له بأنه بريء من ذنوبه، ويرجع كيوم ولدته أمه، وهكذا قال لي صديقي، وأضاف قائلاً: كل ما تقترف يداك من الذنوب خلال أيام الأسبوع كفيل بأن يُغفر لك عند ذهابك إلى الكنيسة يوم الأحد، وحصولك على الغفران. فأنت لا تحتاج إلى الصلاة، ولا إلى العبادة، ولكن إذا تركت ذلك كله وذهبت إلى القس، واعترفت أمامه، غُفِرت ذنوبك".

يقول الأخ رحمة بورنومو: لقد تذكرت ما يقرره الإسلام في ذلك؛ وهو أن البشر مهما علت رتبة أحدهم لا يمكن أن يُوكَلَ إليه غفران ذنوب العباد، كما أن التوبة والمغفرة لا تُسْقِط التكاليف والفرائض، بل لا بد للتائب من أن يؤدي الصلوات الخمس اليومية في أوقاتها، فإذا تركها فلا قيمة لتوبته وعليه إثم كبير لا يمكن أن يتحمله عنه غيره من الناس {ولا تزر وازرة وزر أخرى} صدق الله العظيم.

ثم يقول: لقد رأيت الداخلين إلى حجرة الغفران في الكنيسة عليهم أمارات الحزن والكآبة لثقل الذنوب، بينما رأيت من يخرج منها وقد علت وجهه ابتسامة الفرح لاعتقاده بأن ذنوبه قد غفرت له، أما أنا فحين جربت تلك الغرفة دخلتها حزينًا وخَرجت منها حزينًا، لماذا يا ترى؟

لأنني كنت أفكر وأتساءل: "هذه ذنوبنا يتحملها القس، ولكن من يتحمل ذنوبه هو؟ " وهكذا لم أقتنع بالكاثوليكية فتركتها، وبحثت عن دين آخر.

ثم يحدثنا الأخ رحمة بورنومو عن المرحلة التالية من رحلته من الشك إلى اليقين فيقول: بعد ذلك تعرفت على طائفة نصرانية أخرى تسمى (شهود يهوه) وهي مذهب آخر من مذاهب النصرانية، لقيت رئيسهم، وسألته عن تعاليم مذهبه، وقلت له: "من تعبدون؟ "، قال:- "الله"، قلت: "ومن هو المسيح" فقال: "عيسى هو رسول الله"، فصادف ذلك موافقة لما كنت أومن به، وأميل إليه، ودخلت كنيستهم فلم أجد فيها صليبًا واحدًا، فسألته عن سر ذلك، فقال: "الصليب علامة الكفر، لذلك لا نعلقه في كنائسنا".

وهكذا رضي الأخ رحمة بورنومو أن يعرف المزيد عن شهود يهوه، وهو يصف هذه الفترة من حياته فيقول: لقد أمضيت ثلاثة أشهر كاملة أتلقى تعاليم ذلك المذهب، وفي نهايتها كان لي الحوار التالي مع رئيس الكنيسة، وكان هولنديًّا. قلت له: "يا سيدي، إذا توفيت على هذا المذهب؛ فإلى أين مصيري؟ " قال: "كالدخان الذي يزول في الهواء"، فقلت متعجبًا: "ولكني لست سيجارة، بل أنا إنسان ذو عقل وضمير".

ثم سألته: "وأين أتجه بعد الممات"، فقال: "تُوضَع في ميدان واسع"، قلت: "وأين ذلك الميدان؟ " قال: "لا أعلم"، قلت: "سيدي إذا كنتُ عبدًا مطيعًا ملتزمًا بهذا المذهب، فهل أدخل الجنة؟ " قال: "لا"، قلت: "فإلى أين إذن؟ " قال: "الذين يدخلون الجنة عددهم 144 ألف شخص فقط، أما أنت فسوف تسكن الأرض مرة أخرى"، وهنا قاطعته قائلًا: "ولكن يا سيدى قد وقعت الواقعة، فالدنيا خربت"، قال: "أنت لا تفهم حقيقة القيامة، لو كان لديك كرسي وفوقه حشرات مؤذية، هل تحرق الكرسي لتخلص من الحشرات؟ " قلت: "لا"، قال: "بل تقتل الحشرات ويبقى الكرسي سليمًا، وهكذا فتبقى الأرض سليمة بعد تطهيرها من الدنس والخطايا، وعندها ينتقل إليها الناس من ذلك الميدان، فليس هناك ما يسمى بالنار".

وهنا أعملت فكري جيدًا، ودرست الأمر وقلبته، حتى اتخذت القرار الأخير بترك النصرانية بجميع مذاهبها رسميًّا، كان ذلك في عام 1970، وفي أحد الأيام بينما كنت أسير في طريقي بحثًا عن الحق، رأيت معبدًا بوذيًّا جميلًا ضخمًا فاقتربت منه فوجدت فيه عدة تماثيل وصور في السقف تمثل التنين، وعلى الجدران مثل ذلك، كما شاهدت أمام البوابة تمثالين على شكل أسد صامت، وما أن دخلت من البوابة حتى جاءني رجل فأوقفني، وسأل: "إلى أين؟ " قلت: "أريد أن أدخل"، قال: "اخلع نعليك قبل أن تدخل، هذا معبد لنا فاحترم مكان عبادتنا"، قلت في نفسي: "حتى البوذية تعرف النظافة، أما ديانتي السابقه فلا نظافة فيها، أذكر أنني عندما كنت أدخل الكنيسة لم أكن أخلع نعلَّي عند الدخول" (¬2).

ثم يقول: "لقد جربت الديانة البوذية فترة من الزمن، ولكن سرعان ما تركتها لإحساسي بأنني لم أجد الحق الذي أنشده، ثم اتصلت بالديانة الهندوسية التي بدأت ونشأت في الهند، والتي انتشرت تعاليمها حتى وصلت إلى بعض الجزر الإندونيسية، فأخذت أتنقل بين تلك الجزر التي يوجد فيها نشاط لأتباع هذا الدين، ومكثت معهم فترة من الزمن تعلمت فيها الكثير، وقد نجحت فِي المرحلهّ الأولى إلى درجة أنني أخذت أجربَ الخوارق كالعبور في النار؛ والمشي على المسامير الحادة، وإدخال المسامير إلى أعضاء الجسم إلى غير ذلك، ولكن أيضًا ليس هذا هو ما كنت أبحث عنه".

ثم يضيف الأخ رحمة بورنومو: وذات يوم سألت رئيس المعبد الهندوسي: "ماذا تعبدون؟ "، قال: نعبد "برهما، ويشنو، وشيوا"، برهما: إله الخلق، ويشنو: إله الخير، وشيوا: إله الشر، ثلاثة آلهة تجلت في جسد إنسان واحد اسمه كريشنا الذي يعتبر المنقذ للعالم عند الهندوس، قلت لنفسي: "إذن فلا فرق في أمر الألوهية بين الهندوسية والنصرانية، ولو اختلفت الأسماء فهما يناديان ثلاثة في واحد".

قلت للكاهن الهندوسي: "اشرح لي نشأة كريشنا"، فقال: كان في الهند سنة ألفين قبل الميلاد ملك جبار ظالم لا يرحم حتى أبناءه، فيقتل مولوده الذكر خوفًا من أن يحتل عرشه غصبًا، وفي إحدى الليالي الظلماء كان الملك جالسًا أمام قصره، وإذا بكوكب مضيء يطلع في السماء فوق رأسه، وكان يسير بسرعة مذهلة، ثم توقف في الفضاء وأرسل نوره الباهر على حظيرة الأبقار، فلما سأل الملك رجال العلم والدين، راجعوا كتبهم المقدسة، فقالوا: إن ذلك دليل على تجلي الآلهة في جسم إنسان اسمه سري كريشنا، فقلت في نفسي: هذه القصة بحذافيرها مع تغيير الأشخاص موجودة في الديانة المسيحية، وكنت أحدث بها الناس وأنا قس، والفرق أن القرية المشار إليها هى بيت لحم، والِإنسان عندنا هو المسيح، فلا فرق إذن بيِن القصتين ولا بين العقيدتين في قضية أساسية هي قضية الألوهية، وقضية هوية المنقذ للعالم.

لقد واصلت حواري مع الكاهن الهندوسي فقلت له: "يا سيدي إذا توفيت وأنا على دينكم، فإلى أين مصيري؟ " قال: "لا أعلم، ولكن عليك أن تمتنع عن قتل الحشرات من أمثال النمل والبعوض وغيرهما"، وقال: "قد تكون هذه الحشرات آباءك وأجدادك الموتى".

ثم يقول: "وفي النهاية قررت أن أترك كل تلك الديانات، ولم يكن أمامي إلا الإسلام الذي لم أكن أريد اعتناقه لما غُرس في نفسي منذ طفولتي من نفور وكراهية لهذا الدين الذي لم كن أعرف عنه إلا الشبهات، كنت أريد البحث عن الحق المجهول وهذا البحث يلزم الجهد والصبر، وذات يوم قلت لزوجتي: اعتبارًا من هذه الليلة لا أريد أن يزعجني أحد، أريد أن أصلي وأتضرع إلى الله، وهكذا أقفلت باب حجرتي ورفعت يدي إلى الله خاشعًا متضرعًا قائلًا: "يا رب: إذا كنت موجودًا حقًّا فخذ بناصيتي إلى الهدى والنور، واهدني إلى دينك الحق الذي ارتضيته للناس".

ويمضي الأخ رحمة بورنومو في حديثه فيقول: والدعاء إلى الله ليس كأي طلب من الطلبات كما أن دعائي إلى الله سبحانه وتعالى لم يكن خلال فترة وجيزة فحسب، بل استمر ذلك زمنًا طويلًا، حوالي ثمانية أشهر، وفي ليلة الحادي والثلاثين من شهر أكتوبر عام 1971م الموافقة للعاشر من رمضان من نفس العام، وبعد أن فرغت من دعائي المعتاد رحت في نوم عميق، وعندها جاءني نور الهدى من الله عز وجل، إذ رأيت العالم حولي في ظلام دامس، ولم يكن بوسعي أن أرى شيئًا، وإذا بجسم شخص يظهر أمامي، فأمعنت النظر فيه فإذا بنور حبيب يشع منه يبدد الظلمة من حولي، لقد تقدم الرجل المبارك نحوي، فرأيته يلبس ثوبًا أبيض وعمامة بيضاء، له لحية جعدة الشعر، ووجه باسم لم أر قط مثله من قبل جمالًا وإشراقًا، لقد خاطبني الرجل بصوت حبيب قائلًا: "ردد الشهادتين"، وما كنت حينئذ أعلم شيئًا اسمه الشهادتان، فقلت مستفسرًا: "وما الشهادتان؟ "، فقال: "قل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله" فكررتهما وراءه ثلاث مرات، ثم ذهب الرجل عني.

يقول الأخ الإندونيسي بعد ذلك: ولما استيقظت من نومي وجدت جسمي مبللاً بالعرق، وسألت أول مسلم قابلته: "ما هي الشهادتان، وما قيمتهما في الإسلام؟ "، فقال: "الشهادتان هما الركن الأول في الإسلام، ما أن ينطقهما الرجل حتى يصبح مسلمًا"، فاستفسرت منه عن معناهما فشرح لي المعنى، وفكرت مليًّا، وتساءلت: "من يكون الرجل الذي رأيته في منامي، وكانت ملامحه واضحة المعالم لي؟ " فلما وصفتها لصديقي المسلم هتف على الفور قائلًا: "لقد رأيت الرسول محمدًا - صلى الله عليه وسلم -".

ثم يختم الأخ رحمة بورنومو قصته بقوله: وبعد عشرين يومًا من ذلك الحادث وكانت ليلة عيد الفطر سمعت صيحات التكبير يرددها المسلمون من المساجد القريبة من دارنا، فاقشعر بدني واهتز قلبي، ودمعت عيناي لا حزنًا على شيء، بل شكرًا لله على هذه النعمة فالحمد لله الذي هداني أخيرًا إلى ما كنت أبحث عنه منذ سنين، لقد تم ذلك في عام 1971م وقد خَيَّرتُ زوجتي بين الإسلام والمسيحية، فاختارت الِإسلام، والجدير بالذكر أنها كانت فِي طفولتها مسلمة ومن عائلة مسلمة تنصرت بسبب إغراءات المبشرين، وتبعًا لجهلها بأمور دينها الحنيف، كما تبعنا أبناؤنا فاعتنقوا الِإسلام، ومنذ الثاني من شهر فبراير عام 1972 ونحن مسلمون، والحمد الله.
___________________________________________________

(¬1) من "رجال ونساء أسلموا" للأستاذ عرفات كامل العشي (8/ 63 - 86) بتصرف.

(¬2) النظافة هنا ينبغي أن يقصد بها طهارة النعل من النجاسة، وإلا فلا حرج في الصلاة في النعلين الطاهرين، لورود السنة الصحيحة بذلك.


علو الهمة 238 إلى 254
المؤلف: الشيخ محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم
الناشر: دار القمة - دار الإيمان، مصر
عام النشر: 2004 م

عُلُوّ هِمَّةَ الشَّيْخ أَبِي مُحَمَّد التّرجُمَان الميُورْقي


(756 - 832 هـ) "القسيس انسلم تورميدا" سابقًا أكبر علماء النصارى في القرن الثامن الهجري

في الوقت الذي كان الصليبيون يكرسون جهودهم في نشر النصرانية المحرفة في ربوع الأندلس بعد نفي المسلمين منها، شرح الله صدر رجل من أكبر علمائها للإسلام، فأسلم وجهه لله، واستقام على طاعة الله، وجاهد بيده ولسانه وقلمه في سبيل الله عز وجل، ذلكم هو الشيخ "أبو محمد عبد الله بن عبد الله الترجمان الميورقي"، الذي كان قسيسًا يدعى "انسلم تورميدا"، والذي اشتهر بالترجمان لأنه لما مضى خمسة أشهر على إسلامه، قدَّمه السلطان في الديوان لقيادة البحر، وكان يقصد من ذلك أن يتعلم اللغة العربية، لتكرر عمل الترجمة هناك بين النصارى والمسلمين، فأتقن اللغة العربية في سنة واحدة، وعيَّنه الأمير رئيسًا لشئون الترجمة.

ومن ألقابه عند العوام: "سيدى تحفة" وذلك نسبة إلى كتابه الشهير: "تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب" ذلك الكتاب الذي كان بمثابة ضربة قوية على بنيان النصرانية، كتبه عالم من أكبر علماء النصرانية في عصره باعتراف أهلها وشهادتهم، والذى افتتحه بذكر قصة إسلامه التي نختصرها فيما يلي، فَلْنُصْغِ إليه الآن وهو يحكي لنا بداية هدايته، وكيف حَرَّرَ الله قلبه من رق الشرك والكفران، وشرح صدره للإسلام، فكان على نورٍ من ربه:

[اعلموا -رحمكم الله- أن أصلي من مدينة "ميُورْقَة" (¬1) -أعادها الله للإسلام - وهي مدينة كبيرة على البحر بين جبلين، يشقها وادٍ صغير، وهي مدينة متجر، ولها مرساتان -اثنان- عجيبتان، ترسو بهما السفن الكبيرة للمتاجر الجليلة، والمدينة في جزيرة تسمى باسم المدينة "ميورقة" وأكثر غاباتها زيتون وتين، ....

وكان والدى محسوبًا من أهل حاضرة "مَيورقة"، ولم يكن له ولد غيري، ولما بلغت ست سنين من عمري أسلمني إلى معلم من القسيسين، قرأت عليه الإنجيل، حتى حفظت أكثر من شطره في مدة سنتين، ثم أخذت في تعلم لغة الإنجيل، وعلم المنطق، في ست سنين.

ثم ارتحلت من بلدي "مَيورقة" إلى مدينة "لاردة" من أرض "القسطلان" (¬3)، وهي مدينة العلم عند النصارى في ذلك القطر.

وبهذه المدينة تجتمع طلبة العلم من النصارى، وينتهون إلى ألف رجل أو ألف وخمسمائة، ولا يحكم فيهم إلاَّ القسيس الذى يقرؤون عليه، فقرأت فيها علم الطبيعيات، والنجامة مدة ست سنين، ثم تصدرت فيها أقرأ الإنجيل ولغته ملازمًا لذلك مدة أربع سنين، ثم ارتحلت إلى مدينة "بلونية" من أرض "الأنبردية"، وهي مدينة كبيرة جدًّا، وهي مدينة علم عند جميع أهل ذلك القطر، ويجتمع بها كل عام من الآفاق أزيد من ألفي رجل يطلبون العلوم، ولا يلبسون إلَّا الملف (¬4) (الذي هو صباغ الله) (¬5)، ولو يكون طالب العلم منهم سلطانًا أو ابن سلطان فلا يلبس إلَّا ذلك ليمتاز الطلبة عن غيرهم، ولا يحكم فيهم إلَّا القسيس الذي يقرؤون عليه.

فسكنت في كنيسة لقسيس كبير السن عندهم، كبير القدر اسمه: "نقلاو مرتيل" وكانت منزلته فيهم بالعلم والدين والزهد رفيعة جدًّا، انفرد بها في زمنه عن جميع أهل دين النصرانية، فكانت الأسئلة في دينهم تَرِدُ عليه من الآفاق من جهة الملوك وغيرهم، وصحب الأسئلةَ من الهدايا الضخمة -ما هو الغاية في بابه، ويرغبون في التبرك به، وفي قبوله لهداياهم، ويتشرفون بذلك.

فقرأت على هذا القسيس علم أصول النصرانية وأحكامه، ولم أزل أتقرب إليه بخدمته والقيام بكثير من وظائفه؛ حتى صَيَّرَني من أخص خواصه، وانتهيت في خدمتي له وتقربي إليه إلى أن دفع إليَّ مفاتيح مسكنه، وخزائن مأكله ومشربه، وصَيَّرَ جميعَ ذلك كله عَلَى يدي، ولم يستثن من ذلك سوى مفتاح بيت صغير بداخل مسكنه كان يخلو فيه بنفسه، الظاهر أنه بيت خزانة أمواله التي كانت تُهْدَى إليه، والله أعلم.

فلازمتُه على ما ذكرتُ من القراءة عليه والخدمة له عشر سنين، ثم أصابه مرض يومًا من الدهر، فتخلَّف عن حضور مجلس أقرانه، وانتظره أهل المجلس وهم يتذاكرون مسائل من العلوم، إلى أن أفضى بهم الكلامُ إلى قول الله عزَّ وجل على لسان نبيه عيسى عليه السلام في الإنجيل: (إنه يأتي من بعده نبي اسمه "البارقليط" (¬6))، فبحثوا في تعيين هذا النبي مَن هو مِن الأنبياء؟، وقال كل واحد منهم بحسب علمه وفهمه، فعظم بينهم في ذلك مقالُهم، وكثر جدالهم، ثم انصرفوا من غير تحصيل فائدة في تلك المسألة، فأتيت مسكن الشيخ صاحب الدرس المذكور، فقال لي: "ما الذي كان عندكم اليوم من البحث في غيبتي عنكم؟ "، فأخبرته باختلاف القوم في اسم "البارقليط" وأن فلانًا قد أجاب بكذا، وأجاب فلان بكذا وسردت له أجوبتهم، فقال لي: "وبماذا أجبت أنت؟ "، فقلت: "بجواب القاضي فلان في تفسيره الإنجيل"، فقال لي: "ما قَصَّرْتَ، وقَرُبْتَ، وفلان أخطأ، وكاد فلان أن يقارب، ولكن الحق خلافُ هذا كله، لأن تفسير هذا الاسم الشريف لا يعلمه إلا العلماء الراسخون في العلم، وأنتم لم يحصل لكم من العلم إلاَّ القليل"، فبادرت إلى قدميه أقبلهما، وقلت له: "يا سيدي قد علمتَ أني ارتحلت إليك من بلدٍ بعيد، ولي في خدمتك عشرُ سنين"، حَصَّلْتُ عنك فيها من العلوم جملةً لا أحصيها فلعلَّ من جميل إحسانكم أن تمنوا عَلي بمعرفة هذا الاسم" .... فبكى الشيخ، وقال لي: "يا ولدي .. والله أنت لَتَعُزُّ على كثيرًا في أجل خدمتك لي، وانقطاعك إليَّ، في معرفة هذا الاسم الشريف فائدة عظيمة، لكني أخاف عليك أن يظهر ذلك عليك، فتقتلك عامة النصارى في الحين"، فقلت له: "يا سيدي والله العظيم وحق الإنجيل ومن جاء به لا أتكلم بشيء مما تُسِرُّهُ إلَيَّ إلَّا عن أمرك"، فقال لي: "يا ولدى إني سألتك في أول قدومك عَلَيَّ عن بلدك، وهل هو قريب من المسلمين؟ وهل يغزونكم أو تغزونهم لأختبر ما عندك من المنافرة للإسلام، فاعلم يا ولدى أن "البارقليط" هو اسم من أسماء نبيهم محمد (¬7) - صلى الله عليه وسلم - وعليه نزل الكتاب الرابع المذكور على لسان دانيال (¬8) عليه السلام وأخبر أنه سينزل هذا الكتاب عليه، وأن دينه هو دين الحق، وملته هي الملة البيضاء المذكورة في الإنجيل"، قلت له: "يا سيدي وما تقول في دين هؤلاء النصارى؟ "، فقال لي: "يا ولدى لو أن النصارى أقاموا على دين عيسى الأول لكانوا على دين الله، لأن عيسى وجميع الأنبياء دينُهم دين الله، ولكن بَدَّلوا وكفروا".

فقلت له: "يا سيدي وكيف الخلاص من هذا الأمر؟ "، فقال: "يا ولدي بالدخول في دين الإسلام"، قلت له: "وهل ينجو الداخل فيه؟ "، قال لي: "نعم ينجو في الدنيا والآخرة"، فقلت: "يا سيدي إن العاقل لا يختار لنفسه إلَّا أفضل ما يعلم، فإذا علمتَ فضلَ دين الإسلام فما يمنعك منه؟ "، فقال لي: "يا ولدى إن الله تعالى لم يُطْلِعْني على حقيقة ما أخبرتُك به من فضل الإسلام، وشَرَفِ نبي أهل الإسلام إلَّا بعد كبر سني، ووهن جسمي، ولا عذر لنا فيه بل هو حجة الله علينا قائمة، ولو هداني الله لذلك وأنا في سنك لتركتُ كلَّ شيء، ودخلت في دين الحق، وحبُّ الدنيا رأسُ كُلِّ خطيئة، وأنت ترى ما أنا فيه عند النصارى من رفعة الجاه والعز والترف، وكثرة عَرَض الدنيا، ولو أني ظهر عَلَيَّ شيء من الميل إلى دين الإسلام لقتلتني العامة في أسرع وقت، وَهَبْ أني نجوتُ منهم، وخَلُصْتُ إلى المسلمين، فأقول لهم: إني جئتكم مسلمًا، فيقولون لي: قد نفعت نفسك بنفسك بالدخول في دين الحق، فلا تَمُنَّ علينا بدخولك في دين خلَّصْتَ به نفسك من عذاب الله، فأبقى بينهم شيخًا كبيرًا فقيرًا ابن تسعين سنة، لا أفقه لسانهم ولا يعرفون حقي فأموت بينهم جوعًا (¬9)، وأنا والحمد لله على دين عيسى وعلى ما جاء به، يعلم الله ذلك مني"، فقلت له: "يا سيدي أفتدلني أن أمشي إلى بلاد المسلمين وأدخل في دينهم؟ "، فقال لي: "إن كنت عاقلا طالبًا للنجاة فبادر إلى ذلك تحصل لك الدنيا والآخرة، ولكن يا ولدي هذا أمر لم يحضره أحد معنا الآن، فاكتمه بغاية جهدك، وإن ظهر عليك شيء منه قتلتك العامة لحينك، ولا أقدر على نفعك، ولا ينفعك أن تنقل ذلك عني، فإني أجحده، وقولي مُصَدَّق عليك، وقولُك غير مُصَدَّق عَلَيَّ، وأنا بريء من ذلك إن فُهْتَ بشيء من هذا"، فقلت: "يا سيدي أعوذ بالله من سريان الوهم لهذا"، وعاهدتُه بما يرضيه.

ثم أخذت في أسباب الرحلة وودَّعتُه، فدعا لي عند الوداع بخير، وزودني بخمسين دينار ذهبًا، وركبتُ البحر منصرفًا إلى بلدي مدينة "ميورقة"، فأقمت بها مع والدي ستة أشهر، ثم سافرت منها إلى جزيرة صقلية، وأقمت بها خمسة أشهر، وأنا أنتظر مركبًا يتوجه لأرض المسلمين.

فحضر مركب يسافر إلى مدينة "تونس"، فسافرت فيه من "صقلية"، وأقلعنا عنها قرب مغيب الشفق، فوردنا مرسى "تونس". قرب الزوال.

فلما نزلت بديوان "تونس"، وسمع بي الذين بها من أحبار النصارى، أتوا بمركب، وحملوني معهم إلى ديارهم، وصَحِبَتْهُم بعضُ التجار الساكنين أيضًا بتونس، فأقمت عندهم في ضيافتهم على أرعد عيش أربعة أشهر، وبعد ذلك سألتهم هل بدار السلطان أحد يحفظ لسان النصارى، وكان السلطان آنذاك مولانا أبا العباس أحمد -رحمه الله- فذكر لي النصاري أن بدار السلطان المذكور رجلًا فاضلًا من أكبر خُدَّامه اسمه "يوسف الطبيب" وكان طبيبه، ومن خواصه، ففرحت بذلك فرحًا شديدًا .. وسألت عن مسكن هذا الرجل الطيب، فدُلِلْتُ عليه، واجتمعت به، وذكرت له شرح حالي، وسبب قدومي للدخول في الإسلام، فَسُر الرجلُ بذلك سرورًا عظيمًا بأن يكون تمام هذا الخير على يديه، ثم ركب فرسه وحملني معه لدار السلطان، ودخل عليه فأخبره بحديثي، واستأذنه لي، فأذن لي.

فمثلت بين يديه، فأول ما سألني السلطان عن عمرى، فقلت له: "خمسة وثلاثون عامًا"، ثم سألني عما قرأت من العلوم، فأخبرته، فقال لي: "قدمتَ قدوم خير، فَأسْلِمْ على بركة الله، فقلت للترجمان -وهو الطبيب المذكور-: "قل لمولانا السلطان إنه لا يخرج أحد منه دين إلاَّ ويُكْثِرُ أهلُه القولَ فيه، والطعنَ فيه، فأرغب من إحسانكم أن تبعثوا إلى الذين بحضرتكم من تجار النصارى وأحبارهم، وتسألوهم عني وتسمعوا ما يقولون في جنابي، وحينئذ أسْلِمُ إن شاء الله تعالى"، فقال لي بواسطة الترجمان: "أنت طلبت ما طلب "عبد الله بن سلام" من النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أسلم" (¬10).

ثم أرسل إلى أحبار النصارى وبعضِ تجارهم، وأدخلنى في بيت قريب من مجلسه، فلما دخل النصارى عليه، قال لهم: "ما تقولون في هذا القسيس الجديد الذي قدم في هذا المركب؟ "، قالوا له: "يا مولانا هذا عالم كبير في ديننا، وقالت شيوخنا: إنهم ما رأوا أعلى من درجته في العلم والدين في ديننا"، فقال لهم: "وما تقولون فيه إذا أسلم؟ "، قالوا: "نعوذ بالله من ذلك هو ما يفعل هذا أبدًا"، فلما سمع ما عند النصارى بعث إليَّ، فحضرتُ بين يديه، وشَهِدْتُ شهادتي الحق بمحضر النصارى، فَصَلَّبوا (¬11) على وجوههم، وقالوا: "ما حمله على هذا إلَّا حُبُّ التزويج، فإن القسيس عندنا لا يتزوج" (¬12)، وخرجوا مكروبين محزونين.

فرتَّب لي السلطان رحمه الله ربع دينار كل يوم في دار المختص، وزوَّجني ابنةَ الحاج محمد الصفَّار.

فلما عزمت على البناء بها أعطاني مائة دينار ذهبًا، وكسوة جيدة كاملة، فبنيت بها، ووُلِد لي منها ولدٌ سميته "محمدًا" على وجه التبرك باسم نبينا - صلى الله عليه وسلم - ... ] اهـ.

...

ثم شرع الشيخ عبد الله الترجمان في ذكر طرف من أخبار الدولة الحفصية التي خدم في ديوانها، ثم أردفه بأبواب تسعة كشف فيها هوية كُتَّاب الأناجيل الأربعة "متى، ومرقس، ولوقا، ويوحنا"، وأكَّد أنهم ليسوا من حوارى المسيح عليه السلام بأدلة علمية دقيقة، ثم ناقش قضايا التعميد "التغطيس"، والتثليث، والأقانيم، والخطيئة الأولى، والعشاء الرباني، وصك الغفران، وقانون الإيمان، وفَنَّدَها كلَّها بنصوص الأناجيل، وبأدلة العقل الصريح.

ثم أثبت بشرية المسيح عليه السلام ونفى ألوهيته المزعومة، ثم عرض التناقضات في نصوص الأناجيل المحرفة، ثم تعرض لما يعيبه النصارى على المسلمين؛ كزواج العلماء والصالحين، والختان، والنعيم الحسي في الجنة، ثم ختم كتابه بإثبات نبوة رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم-، وبيان فضله ومنزلته بنصوص من التوراة والإنجيل (¬13).

وبعد: فهذا طرف من سيرة الشيخ الميورقي وجهاده بقلمه ولسانه في سبيل الله عز وجل، أما جهاده بيده فقد اشترك رحمه الله في جهاد بني جلدته من الكافرين، وفي حملة الأسطول الحفصي على جزيرة صقلية (سنة 796 هـ تقريبًا) كان يتولى منصب القائد البحري.

فإن صحت رواية استشهاد الترجمان أثناء الغارة الصليبية على تونس، فهذا شرف عظيم يضاف إلى سجله الناصع في خدمة دين الحق والجهاد في سبيله.

إن سيرة الشيخ الترجمان منار ينير الدرب للتائهين في لجج الظلام، ودياجير الجهل، ويحرر عقولهم من أسر التقليد الأعمى لمن لا يملكون لهم رزقًا ولا أجلًا، ويهدي الحائرين الباحثين عن الحقيقة التي هي أقرب لأحدهم من حبل الوريد، إنها حجة على الجاحدين المعاندين الذين غلَّقوا أعينهم، وجعلوا أصابعهم عليها ليقنعوا أنفسهم أن الشمس غائبة، وأن الدنيا ظلام .. {ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون}.

رحم الله الشيخ الترجُمان، وأعلى درجته في المهديين، وأسكنه الفردوس الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقًا، والحمد لله رب العالمين.

***
____________________________________________________

(¬1) مَيُورقة: جزيرة في البحر الأبيض المتوسط، جنوب شرقي أسبانيا اليوم، فتحها المسلمون سنة (290 هـ)، إلى أن تغلب عليها العدو البرشلوني، وخربها سنة (508 هـ).

(¬3) وهي تدعى اليوم: "كاستيلون" و"قسطلة" مدينة بالأندلس.

(¬4) الملف: كمقص، لحاف يلتحف به.

(¬5) لعله زي مصبوغ بصباغ له قداسة عندهم، والله أعلم.

(¬6) وردت هذه الكلمة في الأناجيل مرة بلفظ (المعزي) ومرة بلفظ آخر هو (بارقليط)، و"بارقليط" تعريب لكلمة (بريكلتوس) وقد حصل نقاش بين الأستاذ "عبد الوهاب النجار" ود. "كارلو نلينو" حول هذه الكلمة، فقال: ( ... ثم قلت له -وأنا أعلم أنه حاصل على شهادة الدكتوراة في آداب اللغة اليونانية القديمة- "ما معنى (بريكلمَوس)؟ " فأجابني بقَوله: "إن القسس يقولون: إن هذه الكلمة معناها: (المعزي)،" فقلت: "إني أسأل الدكتور (كارلو نلينو) الحاصل على الدكتوارة في آداب اللغة اليونانية القديمة، ولست أسأل قسيسًا،" فقال: إن معناها: (الذي له حمد كثير)، فقلت: هل ذلك يوافق افعل التفضيل من حمد؟ فقال: نعم، فقلت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أسمائه "أحمد"، فقال: يا أخي أنت تحفظ كثيرًا .... ) .. انظر: "قصص الأنبياء" عبد الوهاب النجار، ص (397 - 398).

(¬7) من الواضح أن هذا القسيس يؤمن برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ إنه يعرف أوصافه الموجودة في التوراة والإنجيل، وقد تحدث العلماء المسلمون عن معرفة علماء =أهل الكتاب للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، وقد نقل الإمام الجويني -رحمه الله- ما تناولته الآية الكريمة من قوله تعالى: {فاسئل الذين يقرؤون الكتاب} [يونس: الآية 94] وما يتعلق بها من معانٍ، وأشار إلى قول صاحب الكشاف الذي قال: (والمعنى أن الله تعالى قدم ذكر بني إسرائيل وهم قراء الكتاب، ووصفهم بأن العلم قد جاءهم، لأن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ... ) وخلص إلى القول: (فالغرض: وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إلى رسول الله ... ) انظر: "شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل"، للإمام عبد الملك بن عبد الله الجويني، و"الدر المنثور" للسيوطي (1/ 147).
(¬8) نقل الشيخ رحمة الله الهندي (في البشارة الحادية عشر) في الباب الثاني من كتاب دانيال حال الرؤيا التي رآها بختنصر ملك بابل ونسي، وهي رؤيا طويلة. انظر: دانيال (2: 1 - 46)، وخلص إلى أن تلك الأوصاف تنطبق على الرسول - صلى الله عليه وسلم - انظر: "إظهار الحق" لرحمة الله الهندي، ترجمة عمر الدسوقي (2/ 267)، "محمد - صلى الله عليه وسلم - في الكتاب المقدس" للبروفيسور عبد الأحد داود ص (86 - 94)، ص (133 - 144).


(¬9) هذا خيال فاسد، وسوء ظن بخير أمة أخرجت للناس، وجهل بسماحة الإسلام، ونظامه الاجتماعي الرائع المبني على التكافل والرحمة والإحسان إلى الخلق، وحفظ حقوقهم، ورعاية قدرهم، هذا إذا كانوا باقين على دينهم، فكيف بمن انضم إليهم مسلمًا لله عز وجل، شاهدًا شهادة الحق؟، وتأمل ما حكاه أبو عبيد عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله وهو يكتب إلى عدي بن أرطاة بالبصرة قائلًا له:( .. وانظر مَن قِبَلَكَ مِن أهل الذمة قَد كبر سنه، وضعفتَ قوته، وولت عنه المكاسب، فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه، فلو أن رجلاً من المسلمين كان له مملوك كبرت سنه، وضعفت قوته، وولَّت عنه المكاسب، كان من الحق عليه أن يقوته، حتى يفرق بينهما موت أو عتق، وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر مَرَّ بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس، فقال: "ما أنصفناك إن كنا أخذنا منك الجزية في شيبتك، ثم ضيعناك في كبرك"، قال: ثم أجري عليه من بيت المال ما يصلحه) اهـ من "كتاب الأموال" للإمام أبيِ عبيد القاسم بن سلام، وأقوى رَدٍّ على هذا الخيال الفاسد هو ما حظى به تلميذه الترجمان لما آوى إلى المسلمين من الاحترام والتقدير والتكريم".


(¬10) (تشابهت قصة إسلام "الترجمان" بقصة إسلام الصحابي الجليل عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وهو من بني إسرائيل من ولد يوسف بن يعقوب نبي الله عليهما السلام، وقد روى أنس بن مالك رضى الله عنه قال: أقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، قالوا: جاء نبي الله، فاستشرفوا ينظرون، إذ سمع به عبد الله بن سلام، وهو في نخل لأهله يخترف لهم منه، فعجل أن يضع التي يخترف لهم فيها، فجاء وهي معه، فسمع من نبي الله - صلى الله عليه وسلم-، ثم رجع إلى أهله، قال: فلما خلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - جاء عبد الله بن سلام، فقال: "أشهد أنك رسوله الله حقًّا، وأنك جئت بحق، ولقد علمت اليهود أني سيدهم، وأعلمهم، وابن أعلمهم، فادعهم، فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا فيَّ ما ليس في".
فأرسله نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم، فدخدوا عليه، فقال لهم نبي الله - صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقًّا، وأني جئتكم بحق: أسلموا"، قالوا: "ما نعلمه"، فأعادها عليهم ثلاثًا، وهم يجيبونه كذلك. قال: "فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ " قالوا: "ذاك سيدنا، وابن سيدنا، وأعلمنا، وابن أعلمنا"، قال: "أفرأيتم إن أسلم؟ "، قالوا: "حاشا لله! ما كان ليسلم"، فقال: "يا ابن سلام، اخرج عليهم، فخرج إليهم، فقال: "يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله حقًّا، وأنه جاء بالحق"، فقالوا: "كذبتَ"، فأخرجهم النبي - صلى الله عليه وسلم -) اهـ من "عيون الأثر" لابن سيد الناس (1/ 250)، وانظر: "فتح البارى" (7/ 272).

(¬11) (صَلَّبوا)، وهذا أمر ثابت عند النصارى لأنهم إذا أرادوا التعوُّذ من شيء رفعوا أصابعه مضمومة على جبهتهم، ثم أشاروا بعلامة الصليب مرورًا بالكتف الأيمن فالأيسر فالوسط، وقد تتعدى هذه الإشارة من التعوذ إلى البركة، حيث إن البابا يرسم هذه الإشارة حينما يظهر لعامة الناس.


(¬12) (حَرمت الكنيسهَ الكاثوليكية على القسس والرهبان والراهبات الزواج، فأدى ذلك التحريم إلى انتشار الفسق والفجور بين رجالها ونسائها، حتى لقد كان القسس والرهبان يتصلون بالراهبات أنفسهن، ويبررون ذلك بأنه ضرب من المساكنة الروحية) "الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام" د. علي عبد الواحد وافي، ص (122).
ولهذا السبب قام مارتن لوثر البروتستانتي في القرن السادس عشر بثورة على الكنسية، وكان من ضمن آرائه في الإصلاح: (أن جزءًا من فساد الدين يرجع إلى عدم الزواج، ورأى أن المنع منه لم يكن في المسيحية في عصورها الأولى، فقرر حقهم فِي الزواج، وتزوج هو فعلاً مع أنه من رجال الدين، وكان زواجه من راهبة) "محاضرات في النصرانية" لأبي زهرة، ص (16).

(¬13) وقد طبع الكتاب "دار البشائر الإسلامية" - بيروت - لبنان - ص. ب: 5955 - 14 بتحقيق وتعليق الأستاذ عمر وفيق الداعوق - الطبعة الأولى 1408 هـ - 1988م، ومن مقدمته نقلنا هذه القصة تصرف.





علو الهمة 226 إلى 238
المؤلف: الشيخ محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم
الناشر: دار القمة - دار الإيمان، مصر
عام النشر: 2004 م

سلَمَانُ الفَارِسيّ .. أنموذج ِمِثَالي لِلبَاحث عَن الحَقيقَةَ



لقد حفل التاريخ الإسلامي قديمه وحديثه بنماذج رائعة من المهتدين الذين ارتفعت همتهم في البحث عن الدين الحق، وبذلوا في سبيل ذلك النفس والنفيس، فصاروا مضرب الأمثال، وحجة لله على خلقه أن من انطلق باحثًا عن الحق مخلصًا لله تعالى، فإن الله عز وجل يهديه إليه، ويَمُن عليه بأعظم نعمة في الوجود نعمة الإسلام، وسنقتصر في هذا الفصل على بعض هذه النماذج المشرقة في القديم والحديث.

سلَمَانُ الفَارِسيّ .. أنموذج ِمِثَالي لِلبَاحث عَن الحَقيقَةَ

المكان:

شجرة ملتفة وارفة الظلال، تجثم أمام دارٍ متواضعة بـ "المدائن"، يجلس تحت ظلها صاحب الدار -شيخ كبير تعلوه الهيبة، ويزينه الوقار- قد أحاط به جلساؤه الأخيار، ينصتون لحديثه الشيق، وقصته الرائعة ورحلته المباركة في البحث عن الحقيقة.

ها هو ذا يروي لهم كيف غادر دين قومه الفرس إلى النصرانية، ثم إلى الإسلام، وكيف ضحَّى في سبيل "الحقيقة الكبرى" بثراء أبيه الباذخ، ورمى نفسه في أحضان الفاقة، بحثًا عن خلاص عقله وروحه.

إنه يروي لهم: كيف بيع في سوق الرقيق، وهو في طريق بحثه عن الحقيقة .. ؟ كيف التقى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... وكيف آمن به ..... ؟

إنه: سلمان الفارسي، أو سلمان الخير صاحب رسول اللهِ، مثل أعلى لكل باحث عن الحقيقة بصدق وإخلاص وتجرد .. هيا بنا نقترب من مجلسه المهيب، وتعالوا معي نصغ إلى النبأ الباهر الذي يرويه.

يقول سلمان الفارسي رضي الله عنه: "كنتُ رجلاً من أهل أصبهان، من قرية يقال لها: "جي" .. وكان أبى دهقان (¬1) أرضه، وكنت من أحَبِّ عباد اللهِ إليه .. وقد اجتهدتُ في المجوسية، حتى كنت قاطن (¬2) النار التي نوقدها، ولا نتركها تخبو .. وكان لأبي ضَيْعة، أرسلني إليها يومًا، فخرجت، فمررت بكنسية للنصارى، فسمعتهم يصلون، فدخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فأعجبني ما رأيت من صلاتهم، وقلت لنفسي: "هذا خير من ديننا الذي نحن عليه" فما برحتهم حتى غابت الشمس، ولا ذهبت إلى ضيعة أبي، ولا رجعت إليه حتى بعث في أثري .. وسألت النصارى حين أعجبني أمرهم وصلاتهم عن أصل دينهم، فقالوا: في الشام .. وقلت لأبي حين عدت اليه: "إني مررت على قوم يصلون في كنيسة لهم فأعجبتني صلاتهم، ورأيت أن دينهم خير من ديننا" ... فحاورني، وحاورته ... ثم جعل في رجلي حديدًا، وحبسني ...

وأرسلت إلى النصارى أخبرهم أني دخلت دينهم، وسألتهم إذا قدم عليهم ركْبٌ من الشام، أن يخبروني قبل عودتهم إليها لأرحل إلى الشام معهم، وقد فعلوا، فحطمتُ الحديدَ، وخرجت، وانطلقتُ، معهم إلى الشام .. وهناك سألت عن عالمِهم، فقيل لي: "هو الأسقف، صاحب الكنيسة"، فأتيته، وأخبرته خبري، فأقمت معه أخدم، وأصلي، وأتعلم .. وكان هذا الأسقف رجل سوء فِي دينه، إذ كان يجمع الصدقات من الناس ليوزعها، ثم يكتنزها لنفسه .. ثم مات .. وجاءوا بآخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلًا على دينهم خيرًا منه، ولا أعظم رغبة في الآخرة، وزهدًا في الدنيا، ودأبًا على العبادة .. وأحببته حبًّا ما علمت أنني أحببت أحدًا مثله قبله، فلما حضره قَدَرُه، قلت له: "إنه قد حضرك من أمر اللهِ ما ترى، فَبِمَ تأمرني، وإلى من توصي بي؟؟ ".

قال: "أي بُنَي، ما أعرف أحدًا من الناس على مثلِ ما أنا عليه إلا رجلًا بالموصل .. " فلما توفي، أتيت صاحب الموصل، فأخبرته الخبر، وأقمت معه ما شاء الله أن أقيم، ثم حضرته الوفاة، فسألته، فدلني على عابد في "نصيبين" .. " فأتيته، وأخبرته خبري، ثم أقمت معه ما شاء الله أن أقيم، فلما حضرته الوفاة سألته، فأمرني أن ألحق برجل في عمورية من بلاد الروم، فرحلت إليه، وأقمت معه ... واصطنعت لمعاشي بقرات وغنيمات" .. ثم حضرته الوفاة .. فقلت له: "إلى من توصي بي؟ "، فقال لي: "يا بني ما أعرف أحدًا على مثل ما كنا عليه، آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظَلَّكَ زمانُ نبيٍّ يُبْعَث بدين إبراهيم حنيفًا .. يُهاجرُ إلى أرضِ ذاتِ نخل بين حَرَّتين؛ فإن استطعت أن تخلص إليه فافعل، وإن له آيات لا تخفى: فهو لا يأكل الصدقة ... ويقبل الهدية .. وإن بين كتفيه خاتم النبوة، إذا رأيته عرفته".

ومر بي ركب -ذات يوم- فسألتهم عن بلادهم، فعلمت أنهم من جزيرة العرب، فقلت لهم: "أعطيكم بقراتي هذه وغنمي على أن تحملوني معكم إلى أرضكم؟ " .. قالوا: "نعم ... ".

واصطحبوني معهم حتى قدموا بي -وادي القرى- وهناك ظلموني، وباعوني إلى رجل من يهود .. وبصرت بنخل كثير، فطمعت أن تكون هي البلدة التي وُصِفت لي، والتي ستكون مُهاجَرَ النبي المنتظر ... ولكنها لم تكُنْها وأقمت عند الرجل الذي اشتراني، حتى قَدمَ عليه يومًا رجلٌ من يهودِ بني قريظة، فابتاعني منه، ثم خرج بي حتى قدمت المدينة!! فوالله ما هو إلا أن رأيتها حتى أيقنت أنها البلد التي وُصِفت لي .. وأقمت معه أعمل له في نخله في بنى قريظة، حتى بعث الله رسوله، وحتى قدم "المدينة" ونزل بِقُبَاء في بنى عمرو بن عوف.

وإني لفي رأس نخلة يومًا، وصاحبي جالس تحتها إذ أقبل رجل من يهود، من بني عمه، فقال يخاطبه: "قاتل الله بني قيلة إنهم ليتقاصفون (¬3) على رجل بقباء، قادمٍ من مكة يزعمون أنه نبى .. ".

فو اللهِ ما هو إلا أن قالها حتى أخذتني العُرَوَاء (¬4)، فرجفت النخلة حتى كدت أسقط فوق صاحبي!! ثم نزلت سريعًا، أقول: "ماذا تقول ... ؟ ما الخبر ... ؟ ".

فرفع سيدى يده ولكزني لكزة شديدة، ثم قال: "مالك ولهذا .. ؟ أقبل على عملك" ..

فأقبلت على عملي .. ولما أمسيت جمعت ما كان عندي، ثم خرجت حتى جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقباء .. فدخلت عليه ومعه نفر من أصحابه، فقلت له: "إنكم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندى طعام نذرته للصدقة، فلما ذُكِرَ لي مكانكم، رأيتُكم أحق الناس به، فجئتكم به .. ". ثم وضعته، فقال الرسولُ لأصحابه: "كلوا باسم اللهِ" .. وأمسك هو فلم يبسط إليه يدًا ... فقلت في نفسي: "هذه واللهِ، واحدة ... إنه لا يأكل الصدقة" .. !! ثم رجعت، وعدت إلى الرسول عليه السلام في الغداة، أحمل طعامًا، وقلت له عليه السلام: "إني رأيتك لا تأكل الصدقة .. وقد كان عندى شيء أحِبُّ أن أكرمك به هدية"؛ ووضعته بين يديه، فقال لأصحابه: "كلوا باسم اللهِ ... "، وأكل معهم .. قلتُ لنفسي: "هذه واللهِ، الثانية .. إنه يأكل الهدية" .. !! ثم رجعت فمكثت ما شاء الله، ثم أتيته، فوجدته في البقيع قد تبع جنازة، وحوله أصحابه، وعليه شملتان مؤتزرًا بواحدة، مرتديًا الأخرى، فسلمت عليه، ثم عدلت لأنظرَ أعْلَى ظهرهِ، فعرف أني أريد ذلك، فألقى بُرْدَته عن كاهله، فإذا العلامةُ بين كتفيه .. خاتم النبوة، كما وصفه لي صاحبي .. فأكببت عليه أقبله وأبكي .. ثم دعاني عليه الصلاة والسلام فجلست بين يديه، وحدثته حديثي كما أحدثكم الآن.

ثم أسلمت .. وحال الرِّقُّ بيني وبين شهود بدر وأحُد .. وفي ذات يوم قال الرسول عليه السلام: "كاتِبْ (¬5) سيِّدك حتى يُعْتِقك"، فكاتبته، وأمر الرسول الصحابة كي يعاونوني، وحرر الله رقبتي،

وعشت حُرًّا مسلمًا، وشهدت مع رسول اللهِ غزوة الخندق، والمشاهد كلها" (¬6) .. بهذه الكلمات الوِضاء العِذاب .. تحدث "سلمان الفارسي" عن رِحْلتِهِ الزكية النبيلة العظيمة في سبيل بحثه عن الحقيقة العظمى التي تصله باللهِ، وترسم له دوره في الحياة .. فأيُّ إنسان شامخ كان هذا الانسان ... ؟ أي تفوق عظيم أحرزته روحه الطُّلَعَة، وفرضته إرادته الغَلَّابة على المصاعب فقهرتها، وعلى المستحيل فجعلته ذلولًا ... ؟ أي تَبَتُّل للحقيقة .. وأي ولاء لها هذا الذي أخرج صاحبه طائعًا مختارًا من ضِيَاع أبيه وثرائه ونعمائه إلى المجهول بكل أعبائه، ومَشَاقِّه، ينتقل من أرض إلى أرض ... ومن بلد إلى بلد ... ناصبًا، كادحًا عابدًا ... تفحص بصيرتُه الناقدة الناسَ، والمذاهبَ، والحياة ... ويظل في إصراره العظيم وراء الحق، وتضحياته النبيلة من أجل الهدى حتى يباع رقيقًا ... ثم يثيبه الله ثوابه الأوفى، فيجمعه بالحقِّ، ويلاقيه برسوله، ثم يُعطيه من طولِ العمر ما يشهد معه بكلتا عينيه رايات الله تخفق في كل مكان من الأرض، وعباده المسلمين يملئون أركانها وأنحاءها هدىً ورحمةً، وعدلًا ....
___________________________________________



(¬1) الدَّهقان: رئيس القرية، ورئيس الإقليم.

(¬2) قاطن النار: القيم على نارِ المجوس ومُوقِدُها.

(¬3) يتقاصفون: يتتابعون، ويجتمعون، ويتزاحمون.

(¬4) العُرَواء: بَرد الحمى أولَ مسِّها.

(¬5) كاتَبَ السيدُ العبدَ: كتب بينه وبينه اتفاقًا على مال يُقسطه له، فإذا ما دفعه صار حُرًّا، فالسيد: مُكاتِب، والعبد: مكاتَب.

(¬6) باختصار وتصرف يسير، وقد رواه الطبراني، وقال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح، غير محمد بن إسحاق. وقد صرح بالسماع، ومن ثَم حسنه في "السلسلة الصحيحة" (2/ 592).


علو الهمة 217 إلى 222
المؤلف: الشيخ محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم
الناشر: دار القمة - دار الإيمان، مصر
عام النشر: 2004 م

القس المبشر دنلوب وتغريب التعليم في مصر

يعد "دنلوب" واضع المخطط الأساسي لتغريب التعليم والتربية وإقصاء الإسلام عن برامج التعليم في المدرسة المصرية، باعتبار أن التعليم وال...